احمد المرشد
اعترف بأن ما ألهمني لكتابة هذا المقال صورة جاءتني من صديق لمدينة صور العمانية وتحتها توضيح يشرح قائلا "إن مدينة صور بعمان أول نقطة في العالم العربي تشرق عليها الشمس"..وإذا كانت المدينة العمانية المذكورة أول ما تري الشمس في عالمنا العربي، فقد كان لسلطنة عمان نفسها السبق في كتابة التاريخ والاهتمام به، ليكون عبرة وعظة للأجيال، باعتبار التاريخ رابطا بين الأجيال ، والشعوب، والدول ، والقبائل. فشعب بلا تاريخ يعتبر شعب همجي ، وتقول بعض الأمثلة الشعبية العربية :" من ليس له تاريخ يشتري تاريخا".
فالتاريخ كما يعرفه العلماء مرآة الأمم ، وهو الذي يعكس ماضيها ويترجم حاضرها ..ومنه تستلهم الشعوب مستقبلها، ولذا تهتم به الأمم المتحضرة لتحافظ عليه ، وتجتهد في توصيله للأجيال المقبلة ليكون مرآة له لهم في حاضرهم ومستقبلهم . فالدول والشعوب التي أهملت تاريخها ولم تدونه وتحفظه تعتبر أمما خارج الزمن ، فهو – أي التاريخ - قوام الأمم تحيى به وتندثر بدونه .
ربما يختلف العلماء في تعريف التاريخ ، وهل يعني الوقت أم التوقيت أم الزمن والزمان ، ولعلنا نتفق الآن علي أن التاريخ هو العلم الذي يحدد زمن الأحداث وأوقات حدوثها، ويرصدها بدقة. وننقل عن العلماء تعريفات مختلفة عن التاريخ منها اصطلاح أنه فن يبحث عن وقائع الزمان من حيث توقيتها، وموضوعه الإنسان والزمان.. ومنهم من رأي انه الأحداث التي وقعت في الماضي، والتي تقع في الحاضر، والتي يمكن أن تقع في المستقبل. ولعل الأقرب لنا كبشر غير دارسين للتاريخ، أنه عبارة عن مفكرة يومية كإنسان، وزمنية ومكانية للشعوب والدول، أي بمعني سجل عام للمسيرة البشرية. ومن هنا نقول إن التاريخ هو المصدر الأساسي للمعرفة الإنسانية، والسفر الدائم أو الخالد الذي يحمل بين دفتيه كل التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي مرت بها البشرية منذ قدم البشرية ، ومنذ أن قرر الإنسان أن يترك آثاره على الأرض حتى تنتهي الدنيا وما عليها.
لماذا هذه المقدمة في التاريخ تعريفاته المختلفة، لأني لم أجد حتي يومنا الراهن بدلا أو شعبا يهتم بدراسة تاريخه لينقل من فوائده لحاضره ومستقبله ، مثلما يفعل العمانيون، دولة وشعب. فالشعب العماني حريص علي تدوين تاريخه ومعالمه وتراثه وأثاره، وينشط بامتياز علي مواقع التواصل الاجتماعي ، لنقل التراث العماني الخالد الي بقية الأمم. فالعمانيون حريصون بحق علي نقل مقاصدهم التاريخية والأثرية الي شعوب العالم قاطبة، مستلهمين الفكرة في قيادة الدولة التي لا تتدخر جهدا إلا فعلته من أجل الحفاظ علي التاريخ العماني الغني بالمعاني والآثار. ويكفي أن مواطن عماني هو الذي أخذ علي عاتقه الابلاغ بأن مدينة صور العمانية هي أول مدينة عربية تشرق بها الشمس، وهو ما ذكرته في بداية الموضوع. والسؤال:" لماذا اهتم هذا الشخص بنقل هذه المعلومة عبر شبكة الانترنت؟ وما هو دافعه في هذا؟".. الإجابة ببساطة أنه إنسان غيور علي مدينته وبلده ، فأراد أن يصور أهميتها للأخرين الذين لا يعلمون مثل هذه المعلومة، فعرفتها أنا الذي اكتب عنها الآن، وغيري الذي قد يحتفظ بها لنفسه أو ينشرها للأخرين إذا امتلك وسيلة نشر، وفي الأغلب ستكون مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات التراسل والشات.
واتذكر يوم جاءتني صورة مدينة صور ومعلومتها المشار إليها، أن بعثت بها الي اصدقائي علي "الواتساب"، فاستقبلت تعليقات عديدة، منهم من فرح بالمعلومة ذاتها، ومنهم من اعتقد أنني في زيارة لأرض سلطنة عمان الطيبة التي أعشق ترابها وناسها وقائدها جلالة السلطان قابوس، حتي إن البعض اعتقد أنني قد استطيع دعوته لزيارة السلطنة.
وقد دفعتني هذه الصورة لأتعرف أكثر عن مدينة صور، فكانت مدينة صاحبة تاريخ أيضا، فهي تتميز بأول بشروق أول أشعة شمس كما ذكرت، نظرا لموقعها الجغرافي في أقصى المشرق العربي ، وكانت صور مركزا مهما لصناعة السفن عابرة المحيطات مثل البغلة و الغنجة، وتضم عددا من المعالم الأثرية أهمها حصن بلاد صور و حصن السنيسلة وحصن العيجة وفنار راس الميل و حصن رأس الحد، والأودية أبرزها وادي شاب و وادي طيوي، إضافة إلى رأس الحد حيث محمية السلاحف الطبيعية و شاطئ رأس الجنز.. ويحكي تاريخها أيضا أنها من المدن القديمة قدم التاريخ ولعبت دورا بارزا و مميزا في حركة النشاط التجاري البحري عبر المحيط الهندي و بحر العرب و بحر عمان ، و شكلت جسر اتصال تجاري و حضاري بين جزيرة العرب و كل من الهند و جنوب شرق آسيا و أفريقيا ، لذا يعتبر ميناء صور البحري من أقدم المواني وازدهرت السفن الشراعية به في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حيث كانت ترسو به أكثر من مائة وخمسين سفينة باليوم الواحد. فمجرد صورة بمعلومة واحدة عن مدينة جعلتني أبحث عن مكنونها وتاريخها ، وهكذا هو التاريخ.
وبمناسبة هذه الصورة، كنت تلقيت علي "الفيس بوك" أيضا تفاصيل مدونة خاصة بعنوان "قلعة التاريخ" وهي اول مدونة متخصصة في التاريخ العماني، واعترف بأن الإطلاع عليها لأمر مدهش حقا، ولعلي أشكر كل ما ساهم في انجاز هذه المدونة التي جاءت سردا لتاريخ عمان وسكانها ومدنها وحكامها وقصورها وبيوتها وأسواقها، فالصور تتوالي في انسيابية، لنتعرف معا علي سوق مسقط عام 1899 ، والباب الكبير في مسقط حوالي العام 1900، ومسجد الزواوي بمسقط، وباب سوق اللواتيا الغربي بمطرح عام 1932، وقلعة نزوي ومخطط للعاصمة عام 1885، ناهيك عن صور السلاطين وأبنائهم ورحلاتهم وزوراهم الأجانب والمحليين. فالمدونة بحق تحكي تاريخا مصورا وتسرده عبر الصورة والزمان، ليعرف جيل اليوم كانت مدينته وبلده قبل مائة عام أو أقل أو أكثر قليلا.
وعبر هذه المدونات وغيرها، يستطيع أي شعب وبعيدا عن الحكومات، نشر تاريخه للخارج، بما يحويه من فن وأدب وعلم وعلوم إنسانية، وعبرها أيضا نستطيع معرفة الماضي لندرك كم كانت الحياة صعبة مقارنة باختراعات العلم الحديث . وإذا كان علماء التاريخ يختلفون فيما بينهم علي تعريف محدد لهذا "التاريخ" ، فإن عمل المدونات التي تعمل علي حفظ التاريخ يسرد لنا التاريخ الإنساني للأمة وعملية نموها وارتباطها بالمعرفة الإنسانية وتطور المجتمع خلال الفترات المختلفة.
وقد نتفق مع المؤرخ الفرنسي سنوس مع ما قاله عن التاريخ " "التاريخ هو علم الوقائع التي تتصل بالأحياء من الناس في مجتمع خلال توالي الأزمنة في الماضي، وهو يدخل في عداد العلوم الوصفية، فإذا أخذنا بمعنى البحث أو الاستقصاء بهدف الوصول إلى الحقيقة التي من وراء الأحداث، فبهذا المعنى يكون التاريخ علما"..وبهذا التعريف نصل الي معني المدونات التي نشير إليها، فهي تنقل لنا وصفا للتاريخ عبر صور أو حكايات، عبر فن وأدب او وقائع حقيقية، وفي هذا ينشط العمانيون في حفظ تاريخهم والعمل علي نقله للعالم الخارجي، وقد نجحوا في هذا حقا.
كاتب ومحلل سياسي بحريني