على الرغم من الجهود التي تبذلها الدولة في التوجه نحو دولة المؤسّسات التي تتخذ من سيادة القانون مظلة تستظل به في أداء عملها، والسعي إلى تكريس وترسيخ دور مؤسسات المجتمع المدني من خلال العديد من الأطر والتشريعات، بل والممارسات العملية التي تطبق منهجية هذا الجانب، إلا أن القبيلة لا تزال تقيّد بعض توجهاتنا من خلال سلطتها القوية في إدارة الأمور وتوجيه الاهتمام والتدخّل في مفاصل العمل في العديد من المجالات وتتحكّم في توجيه بعض السّياسات وتعيق مسار العمل في التوجّه نحو دولة المؤسّسات والقانون التي نطمح إلى تحقيقها وهو ما يحتاج إلى المزيد من الوقت والجهد لتعزيز التحول الذي سيرسّخ الكثير من متطلبات العصر الهامة مثل العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع وتكافؤ الفرص وغيرها.
فلا يستطيع منصفٌ إنكار أن هناك جهودا كبيرة تبذل في تعزيز دولة المؤسسات والقانون في البلاد، لكنها جهود تحرص في المقام الأول على تماسك المجتمع العماني، لذا تتخذ من التدرج الذي يأخذ بالأولويات التي تجعل التغير في البلاد يمضي بانسيابية عالية منهجا دون إحداث فجوة في عملية التحول تثير ردود أفعال متعارضة بين فئات المجتمع أو تحدث انقلابا على أعراف المجتمع المتوارثة، فدولة القانون لا تحتاج لمجرد تشريعات وأطر لكنها تحتاج إلى ترسيخ المفهوم، وتحويله لسلوك يواكب المتغيرات، لأن الكثير من الممارسات المجتمعية والعادات والتقاليد تحدّ من عملية الانتقال السلس لدولة المؤسسات والقانون.
إن التحديات التي تواجهنا في عملية الانتقال للدولة المدنية تأتي من جانبين أحدهما مجتمعي والآخر حكومي، رغم الرغبة الأكيدة الواضحة من الطرفين للسير نحو دولة المؤسسات، فمن الناحية الحكومية نجد أن الحكومة لا تزال تضع سلطة القبيلة في العديد من الاعتبارات، منها ما يتعلق بالتعيينات في مناصب حكومية مختلفة أو مراعاة العديد من الرسميات التي تكرس السلطوية والمركزية وما شابهها من أعمال والاهتمام بالأعيان والشيوخ والمفاضلة بين فئات المجتمع على مرجعية قبلية، إنها ممارسات تؤخذ على الحكومة خصوصا من جانب بعض الفئات التي ترى أن هذه الممارسات لا تتوافق مع التطلعات المستقبلية لبناء الدولة.
إن هذه التوجهات يجب أن تتقلص لصالح ترسيخ دولة المؤسسات والقانون بشكل متدرج يساعد في تسريع الانتقال، ويقنع فئات واسعة من المجتمع تنظر إلى هذه الممارسات بأنها منافية لتوجهات المجتمع المدني الذي نعتزم ترسيخه. فالدولة يجب أن تحدث تطويرا وتغييرا في مسار المجتمع نحو دولة المؤسسات من خلال العديد من الإجراءات التي تحتاج إلى بلورتها، قبل أن تطالب من المجتمع بمواكبة متطلبات المجتمع المدني.
أما على الصعيد المجتمعي فالمجتمع يسعى هو الآخر إلى توسيع دوره المدني وترسيخ دولة المؤسسات والقانون في معظم الجوانب التي تهمه ويصرخ معترضا على بعض الممارسات التي تسير عكس ذلك الطريق، ويكبّر الأخطاء في جوانب كثيرة تفرض أطر تطبيق دولة القانون، إلا أننا نجده هو من يناقض ماهية دولة المؤسسات والقانون بخرقه للقوانين وتجاوزاته وطلباته التي تتعدى الآخرين في ممارسة غريبة جدا، حتى عندما يختار ويصوت في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة نجد البعد القبلي من أهم الأبعاد التي يتم الاختيار على أساسها، مما يبعد الكفاءة كمعيار، يشكل ركيزة أساسية للمضي قدما نحو دولة المؤسسات. لذا فعلى المجتمع أن يحدد خياراته بوضوح، إما السير قدما نحو دولة المؤسسات التي تستظل بسيادة القانون، أو التمسك بالميراث القبلي وما يتبع ذلك من العودة بنا إلى الوراء. وإلا سنظل نسير في اتجاهين مختلفين، ونحرص على الالتزام بكل منهما: الدولة المدنية ...ودولة القبيلة، بينما عقولنا تدرك وتعي أن علينا البقاء في هذا الجانب الذي يسعى بكل دأب للانضمام إلى المجتمع الدولي واتخاذ مكانة متقدمة بين أعضائه.. وهنا يجب عدم الخلط بين التوشح بعاداتنا وتقاليدنا، والمضي نحو التقدم من خلال اختيار الجيد من تلك العادات والمناسب للعصر منها حتى تتواكب مع العصر، كما يجب علينا أن نغلب اهتمامنا بدولة المؤسسات التي تحكمها سلطات متعددة تنفيذية وقضائية وتشريعية.
بالطبع التحول إلى دولة المؤسسات والقانون يحتاج إلى وقت وتفهم من الجميع وإيمان عميق بهذا المفهوم ومتطلباته، وبذل المزيد من الجهود لحفز المجتمع نحو التحول، وتطبيقاته العملية التي تقلص الاعتبارات القبلية وتغير ثقافة المجتمع تجاه مفهوم دولة المؤسسات والقانون التي لا تتجسد إلا من خلال ممارسات واعية للحقوق والواجبات، وتغليب المصلحة العامة على المصالح الشخصية الآنية. نأمل أن يتفهم الجميع سواء الحكومة أو المجتمع، أن ترسيخ دولة المؤسسات والقانون يحتاج إلى بعض التضحيات في عملية التغير وجرعات قوية تعزّز هذا الاتجاه وتسهم في التخلص من الكثير من التبعات التي ما زالت تحمل الدولة أعباء إضافية على ما تقدمه من جهود وخدمات.