
عندما يفقد التكريم معاييره، تفقد القيم معناها. فما الذي يبقى من الجوائز والألقاب حين تُمنح وفق العلاقات والمجاملات لا على أساس الاستحقاق والكفاءة؟ إن التكريم الزائف لا يعدّ مجرد حدث اجتماعي عابر، بل هو خلل يمسّ ضمير المجتمع، ويشوّه مفهوم القدوة الذي تستند إليه الأجيال في بناء وعيها وسلوكها.
نحن اليوم أمام ظاهرة تتكرر في صور متعددة: شخصيات تُسلَّط عليها الأضواء دون إنجاز يُذكر، وأسماء تُرفع على المنصات فقط لأنها تملك حضورًا اجتماعيًا أو قدرة على خلق ضجيج إعلامي، لا لأنها قدّمت عطاءً صادقًا. وفي المقابل، هناك من يعمل بصمت لسنوات طويلة، يقدّم للناس والمجتمع من دون أن يلتفت إلى عدسات أو منصات، هؤلاء هم من يستحقون التكريم الحقيقي.
وقد نبّه رسول الله ﷺ إلى هذا الخلل حين قال: «سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة». قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه يتكلم في أمر العامة». وهذه الصورة لا تنطبق فقط على المتحدثين في الشأن العام، بل تمتد إلى من تُسلَّم إليهم راية التقدير والصدارة دون استحقاق.
ولعلّ ما يدعو للأسى أن نرى مؤسسات يفترض بها أن تحفظ القيم وتُعلي من شأن القدوة، تُقدِم على تكريم من لا يمتّ إلى الفضيلة بصلة، كما يحدث أحيانًا في بعض الجوائز التي تُمنح تحت مسمى «الأم المثالية» أو «الشخصية المُلهمة»، بينما تتجاهل النساء اللواتي قدّمن أعمارهن في التضحية، والتربية، والبناء بصمت ونبل وصدق. إن تكريم غير المستحق لا يرفع من شأنه، بل يهبط بقيمة الجائزة نفسها، ويجعلها شكلًا بلا مضمون.
التكريم قيمة أخلاقية تُبنى على أثر حقيقي… لا على حضور أو نفوذ.
إن الجوائز ليست وسامًا يُعلّق لمجاملة شخص أو إرضاء جهة. إنها مسؤولية أخلاقية، تعكس احترام المجتمع للقدوة والعمل والإنجاز. وحين نُكرّم غير المستحقين، فإننا نهدم مبدأ القدوة في جذوره، ونُرسّخ في الوعي أن الواجهة تغلب الجوهر، وأن المظاهر تكفي لانتزاع الاعتراف.
إن في مجتمعنا من الأمهات والآباء والمربين والعاملين بصمت، من يستحقون أن تُسجّل أسماؤهم بنور. هؤلاء هم الذين بنوا بيوتهم وقيمهم وذواتهم على الصدق والثبات والإخلاص. أما تهميشهم لصالح أسماء تتقدّم بالظهور لا بالعطاء، فهو ظلم لا يليق بمجتمع يريد أن يبني وعيًا سليمًا.
لقد آن أوان إعادة الاعتبار إلى المعايير الحقيقية: العمل الجاد، التأثير الصادق، والنزاهة التي لا تستمد قيمتها من التصفيق، بل من أثرها في الناس. فالمكانة لا تُمنح… المكانة تُكتسب.