طائرة مصر المنكوبة.. أسرار وحكايات جديدة

الحدث الأحد ٢٢/مايو/٢٠١٦ ٠٣:٢٤ ص
طائرة مصر المنكوبة.. أسرار وحكايات جديدة

القاهرة - خالد البحيري

من رحم المعاناة والأزمة، ووسط حالة الذهول، والرغبة في عدم تصديق ما حدث، كشفت "الشبيبة" أسرار وحكايات حول الطائرة المصرية المنكوبة، والتي أُعلن عن فقدانها فجر الخميس الفائت، والعثور على أجزاء من حطامها وبعض أشلاء الضحايا ومتعلقاتهم بمياه البحر المتوسط بالقرب من محافظة الإسكندرية -شمال العاصمة المصرية القاهرة- الجمعة، ورصدت حكايات امتزجت فيها مشاعر الفرح بالنجاة من مصير 66 شخصا كانوا على متن الطائرة متوجهين من باريس إلى القاهرة، وحكايات أخرى رسم أبطالها سيناريو النهاية قبل أن يسدل الستار على المأساة بشهور عدة، وكأنهم كانوا يقرأون من كتاب القدر بعيون البصيرة، وينفذون إلى المستقبل بقلوب خفاقة نحو الموت.
سجلنا أيضا تساؤلات أحد العاملين بالمطار والذي كشف لنا أسرار لم تتم إذاعتها عن الطائرة المنكوبة وحكى لنا كيف أن مصر للطيران كانت تحاول إخفاء هذه الطائرة تحديدا، وأحيانا تعين عليها حراسة حتى لا يقترب منها أحد، ولماذا سافر على متنها ثلاثة من رجال الأمن وليس اثنين كما هو المعتاد في الرحلات الجوية الدولية.

المضيفة العروس
"رب أغسلني من ذنوبي ثم خذني إليك".. هذا هو الدعاء الذي ناجت به سمر عز الدين مضيفة مصر للطيران التي قضت في الطائرة المفقودة منذ الخميس الفائت ربها، بينما كانت آخر كلماتها لصديقتها المقربة وزميلة دراستها في جامعة عين شمس: "عندي رحلة للسماء" حينما سألتها: هتسيبنا يا سمر؟
أما في مارس الفائت فقد رسمت سيناريو وفاتها بدقة شديد، حينما نشرت عبر حسابها على فيس بوك صورة مضيفة طيران في وسط البحر يجر حقيبتها بينما تظهر في الخلفية بقايا طائرة في طريقها نحو القاع.
سمر؛ هي تلك العروس التي تم زفافها قبل شهر واحد من زفافها إلى السماء، وعدت زوجها وهو يودعها بأنها ستعود إليه لاستكمال "شهر العسل"، كما وعدته بهدية من أرقى محلات الموضة في باريس، لكنها لم تستطع الوفاء بوعودها، فلا هي عادت من جديد إلى شريك العمر، ولا البحر سمح لأحد بأن يستخرج هديته من وسط أمواجه الهائجة حزنا على العروس الشابة.
صديقتها -التي رفضت الإفصاح عن اسمها لاعتبارات قالت إنها إنسانية- لم تتمالك نفسها، وهي تحكي لنا عن رفيقة دربها وإنسانيتها وكيف كانت رقيقة وراقية في معاملتها مع الجميع، ولا تتواني عن مد يد العون للجميع سواء خلال عملها بشركة فودافون للاتصالات، أو بعد انتقالها منتصف العام 2014 للعمل بمصر للطيران كمضيفة جوية.
قالت إن صديقتها كانت تنتظر الموت في كل رحلة تقوم بها، وقد نشرت صورا تعبر عن ذلك على صفحتها على فيس بوك على فترات، كانت تشعر أنها محسودة، وأن عينا ما تترقبها، فكانت دائمة اللجوء إلى القرآن الكريم، تتمسك بأهداب آيات الوقاية من العين والحسد، وتدعو الله أن يحسن خاتمتها.
أضافت: منذ عملت في مصر للطيران وحياتها مقسمة إلى ثلاثة أجزاء، إما أنها في رحلة لبلد ما، أو أنها نائمة تستريح من عناء العمل وتستعد لرحلة جديدة، أو تتناول طعامها، لم تكن تملك رفاهية الوقت أو تضييعه، فحياة المضيفات التي يحسدهن عليها الكثيرات ليست كما يتصور البعض، فهي من المهن الشاقة المتعبة.
تابعت: أرسلت سمر لي على واتس أب تقول: "إدعيلي أوصل بالسلامة بس" فأجبتها: "هتوصلي بالسلامة إن شاء الله، طنط عاملة لك كل الأكل اللي بتحبيه يا سوسو".. وكان آخر رد منها: خلي بالك من ماما والنبي هتوحشوني كلكم أوي أدعوا لي".

أنانية الاطمئنان
جاءنا صوتها عبر الهاتف دافئا، مزيجا من الفرح لنجاة والدها، والحزن والشجن العميق على باقي الأرواح التي فاضت إلى بارئها.. إنها سفيرة السعادة د. غادة عبد الرحيم علي ابنة الإعلامي والبرلماني المصري عبد الرحيم علي والذي ألغى حجزه على الطائرة المنكوبة قبل ساعات قليلة من إقلاعها.
قالت: يوم الأربعاء أرسل لي والدي يستشيرني، هل يعود على طائرة مصر للطيران التي تقلع مساء الأربعاء وتصل القاهرة فجر الخميس؟ أم ينتظر ليوم آخر؟ فهو قادم من بروكسل وسوف يغادر الفندق في الثانية عشر ظهرا بينما اقلاع الطائرة في المساء، وظروفه الصحية ربما لا تسمح له بالبقاء منتظرا طوال هذه الفترة في الشارع أو متجولا بين المحلات والمقاهي.
تضيف: لم أعطه جوابا وكنت أفكر في الأمر فالليلة الواحدة في الفندق تتكلف 700 يورو، فضلا عن غرامة تأجيل موعد السفر وهي 3 آلاف جنيه (320 دولار تقريبا)، وانتهى الحديث بيننا أنه سيعود لي مرة أخرى لنحسم الأمر.. لكنه لم يعد.
وتستدرك: إنه أغلى شيء بالنسبة لي في الوجود، وأنا الأقرب له من بين عائلتنا، أصابني الهلع والخوف حينما تنامى إلى مسامعي خبر فقدان الطائرة، تيبست الدماء في عروقي للحظات، تسمرت في مكاني لبرهة، ثم هرولت إلى هاتفي وطلبت والدي، رن جرس الهاتف لكنه لم يجب، ابتلعت ريقي، وهدأت بعض الشيء، وحدثت نفسي بصوت مسموع: "ما دام الهاتف يعمل إذن هو بخير.. نعم لم يركب الطائرة واختار البقاء ليوم آخر في باريس".
وتضيف: بعد عدة محاولات ومضي وقت ليس بالكثير جاءني صوته ليعيد الحياة إلى من جديد، ويرفع عني عبء سنين طويلة كنت سأظل فيها حزينة لأني لم أنصحه بالبقاء.. كيف لي أن أسامح نفسي؟
بعد مكالمة أقل ما توصف به أنها أعادت الروح للجسد، انتابتني أنانية غريبة، لم أتحدث لأحد من أفراد عائلتنا ولم أطمأنهم على والدي، فقد استسلمت إلى حمّام دافئ، كنت اتنفس ببطء شديد بينما تتساقط قطرات المياه فوق رأسي، شعور لا يوصف، بالراحة والسكينة، لقد وهبني القدر أبي من جديد.. نعم سيعود، لكنني نصحته بأن يعود من مطار بروكسل وليس من باريس، فاستجاب.
وتتذكر اللحظات التي أعقبت الإعلان عن فقدان الطائرة قائلة: كان جميع الأهل والأصدقاء متخوفون من الاتصال بي، أو الاطمئنان على والدي، ربما يكون -لا قدر له في الطائرة المفقودة- الصمت خيم على هاتفي الذي لا يتوقف عن الرنين في العادة، حتى كتبت على حسابي على مواقع التواصل الاجتماعي أن عبد الرحيم على بخير، كما كتب هو أيضا ذلك، وهنا مزق رنين الهاتف جدار الصمت وانهالت الاتصالات المُطمئنة والمُهنئة على نجاة والدي، وتحول الحزن بقدر الله ومشيئته إلى فرح لا يوصف.

سيناريو الانتحار
قائد الطائرة لم ينتحر.. مستحيل أن ينتحر أو يفكر في ذلك، أعرفه عن قرب ومنذ سنوات طويلة.. بهذا النفي القاطع جاءنا عبر الهاتف صوت الإعلامي محمود الشيمي، كبير المذيعين بالتلفزيون المصري وصديق قائد الطائرة المنكوبة محمد شقير.
وبعد أن هدأت نبرات صوته، قال لنا: إذا أردت عنوانا للأخلاق الحميدة، والصفات الطبية، والتواضع وحب الحياة فهو محمد شقير، عرفته منذ زمن بعيد، كان عشقنا المشترك هي الإسكندرية، التي لقي ربه على مقربة من شواطئها، التي قضينا أجمل ليالينا فيها، جلسات سمر تجمعنا بأصدقائنا من المسلمين والمسيحيين، نتبادل أطراف، ونستمتع بالموسيقى الراقية والغناء، التي كان يتفاعل معها شقير أحيانا ويقوم ليرقص مع الزملاء على أنغامها.. لقد كان عاشقا للحياة، لا تفارق الابتسامة وجهه، ولا يكف عن المزاح مع أصدقائه.. لا يشعرك أبدا بأنه طيار، فهو من بيئة ريفية، يعيش على مقربة من أطراف محافظة الجيزة لعائلة لها وزنها بين العائلات، محاط بحب الجميع، ورعايتهم.. كيف ينتحر من كانت هذه صفاته هذا نمط حياته؟!

-**-
تساؤلات حائرة حول رمز الطائرة المنكوبة
تواصلت "الشبيبة" مع أحد العاملين بمطار القاهرة الدولي -نتحفظ على نشر الاسم لأسباب تتعلق بسلامته- فقال إن لكل طائرة اسم يختلف عن باقي الطائرات ولا يمكن أن يتكرر ويتكون هذا الاسم من ثلاثة أحرف، لكن ما يستخدم هما الحرفين الأخيرين فقط وذلك للتفرقة بين الطائرات التي تنتمي لنفس الطراز والنوع، وكانت الطائرة المنكوبة تحمل اسم C.C، وعقب ثورة 30 يونيو 2013 والتي أطاحت بحكم الإخوان المسلمين التي صنفتها مصر بأنها "جماعة إرهابية" كان هناك بعض المنتمين لهذه الجماعة، أو المتعاطفين معها يكتبون تحت اسم الطائرة عبارات غير لائقة، مما دفع شركة مصر للطيران لتغيير مكان توقفها أكثر من مرة، وإخفائها أحيانا، وتعيين حراسة عليها أحيان أخرى حتى لا يعبث بها أحد، أو تصل لها أيدي المخربين، وتساءل: "هل ثم علاقة بين اسم الطائرة والمصير الذي آلت إليه؟" وأجاب: مجرد تساؤل.
وختم حديثه معنا بأن كل رحلة داخلية يسافر عليها ضابط أمن لتأمينها، بينما يسافر ضابطا أمن على الرحلات الدولية، لكن فرنسا طلبت من مصر للطيران زيادة عدد ضباط الأمن لثلاثة أفراد، بعد الهجمات الدامية التي شهدتها باريس وهو ما يفسر زيادة قوة تأمينها.. إلا أن ذلك أيضا لم يستطع حمايتها مع عمل قدر يرقى لأكبر جرائم أجهزة المخابرات العالمية.
.. وهكذا؛ يظل لغز تحطم الطائرة المصرية فوق البحر المتوسط لغزا ربما تكشف الأيام القادمة بعضا من تفاصيله، لكن المؤكد أن وراء كل راكب قضى من على متن هذه الطائرة حكاية، وقصة إنسانية لا تقل في روعتها ومأساويتها عن تلك التي رصدناها في سياق هذا التقرير.