يروي التراث الإغريقي قصة الملك ميداس الذي تمنى أن يتحول كل ما يلمسه إلى ذهب. فرح في الساعات الأولى، قبل أن يكتشف أن نعمة اللمسة الذهبية لعنة مقنّعة:
طعامه صار ذهبًا لا يؤكل، وماءه ذهب لا يُشرب، حتى من أحبّ تحوّلت لتمثال صامت !
ونحن اليوم نعيش نسخة ناعمة من لعنة ميداس. لا نحول الأشياء إلى ذهب، بل تحول كل شيء لسلعة كما خطط الفكر الاقتصادي : الانطباع، المشهد اليومي، العلاقات ، الوقت. طُوقنا بالإعلانات وبالمعلنين، بإغواء مواسم التخفيضات الوهمية ، بالعلامات التجارية التي ربطت قسرا بالمكانة والقيمة . لقد حاصرونا حتى صرنا نشتري بأسرع مما نفكر، ونتورط في أقساط نخدم بها البنوك أكثر مما نخدم احتياجاتنا . وصرنا نسخ مكررة : تراكم المقتنيات ، تستنسخ السلوك ، وتربط السعادة بالبذخ .
ثم جاء دور تسليع العلاقات : ربطها بالمنفعة ، ربطها بالبهجة اللحظية ، وبالمصالح المشتركة .
وهكذا تحول كل ما في حياتنا لمعدن ، اشك في أنه نفيس ، وإن بدا للبعض كذلك .
هذه البيئة ، بيئة المتعة والاستهلاك العابر ، لها كلفة أخلاقية عالية . فحين يعرّف الإنسان نفسه بما يملك لا بما يكون، تنقلب المعادلة: يصبح تابعًا لرغبات صممتها خوارزميات السوق. وتتحول الهوية إلى واجهة عرض خاوية . ومع الوقت يفقد الفرد صوته الداخلي، ويفقد بوصلته .
لسنا مطالبين بالزهد القسري، ولا بالتوقف عن الاستهلاك بل باستعادة القيادة. أن نعيد الأشياء إلى مكانها الطبيعي:
أدوات في يد إنسان حر، لا أصفادًا على معصم مستهلك مطارد بالموضات.
أوقف لعنة ميداس الحديثة وأستعد القيادة : لا تجعل الأشياء تصوغ صورتك ؛ قيمتك بما تبني وتمنح وتترك من أثر. الخروج من سحر الذهب لا يبدأ بالامتناع بل بإعادة الترتيب: الإنسان أولًا، ثم الزمن، ثم الشيء. لا تطرد السلع من حياتك، بل أنزلها من مقامها. امتلك ما يخدمك ولا تجعل ما تملك يعرّفك؛ ضع سقفًا للرغبة وحدًا للكفاية، حين يصبح ما فيك أغنى مما عندك ستنطفئ اللعنة . سترى الناس ، ونفسك ، على حقيقتها . ولن تصبح عبدا للعنة من جديد.