عندما تولى الخليفة المأمون الحكم، كان محاطًا بجيل من العلماء والمفكرين الذين دفعوا بحضارة المسلمين إلى أوجها. بعض شيوخ عصره رأوا في أفكاره تهديدًا لموروثهم، بينما رأى شباب زمانه فيه قائدًا يفتح أبوابًا جديدة للمعرفة. كان التوتر بين القديم والجديد حاضرًا، ومع ذلك أفرز التفاعل بين الجيلين نهضة معرفية بقي أثرها قرونًا.
ما جرى في عصر المأمون ليس صراعًا بسيطًا بين محافظين وتقدميين. فقد كان في المشهد بيت الحكمة وحركة ترجمة واسعة، لكن كان فيه أيضًا نزوع لفرض الرأي العقدي بالقوة في محطات معروفة. الدرس الأهم أن الثقة بين الأجيال لا تُبنى بالقهر ولا بالشعارات، بل بميزان دقيق يجمع رعاية الموروث مع توسيع أفق الاجتهاد. حين تتحول المعرفة إلى حلبة احتكار، تنكسر الثقة؛ وحين تُدار كحوار بين خبرة الكبار وأسئلة الصغار، تزدهر.
هذه الحكاية ليست استثناء. كل عصر يعرف توترًا بين جيل يملك خبرة الماضي وجيل يسعى لصناعة المستقبل. غير أن ما نشهده اليوم يتجاوز التوتر الطبيعي إلى أزمة ثقة حقيقية. الآباء يتهمون الأبناء بالتهور والسطحية، والأبناء يرون في آبائهم جمودًا وانفصالًا عن الواقع.
جزء من الأزمة يعود إلى تسارع التغيرات. جيل الأمس عاش في عالم بإيقاع ثابت، بينما وُلد جيل اليوم في عالم تتبدل فيه التكنولوجيا والقيم بسرعة البرق. الهوة ليست في العمر فقط، بل في سرعة التحول. طبيعي أن يشعر الكبار أن ما يعرفونه لم يعد صالحًا، وأن يشعر الشباب أن الكبار لا يملكون أدوات فهم الحاضر.
لكن الأزمة ليست حتمية. ما يحولها إلى مأزق خانق هو غياب الحوار. حين يكتفي كل جيل بإطلاق الأحكام على الآخر، يصبح الخلاف جدارًا لا جسرًا. الشاب بحاجة إلى أن يسمع حكايات الكبار لا كقيود بل كخبرة متراكمة، والكبير بحاجة إلى أن يصغي لأسئلة الشباب لا كتمرد بل كطاقة تبحث عن طريقها. المجتمعات التي تفقد الثقة بين أجيالها تعيش انقطاعًا في ذاكرتها؛ الشباب بلا جذور، والكبار بلا امتداد.
كثير من الصدام سببه الخلط بين الثابت والمتغير. القيم الكبرى كالأمانة واحترام الإنسان وإنصاف الضعيف ثوابت تحتاجها كل العصور، أما الأدوات والوسائل فمتغيرة بطبيعتها. حين يصر جيل على تقديس الوسيلة التي عرفها، أو يطيح جيل آخر بكل ما سبق بدعوى الحداثة، تنكسر الثقة. المطلوب عقد قيمي مشترك يحدد ما لا نتنازل عنه، ويطلق حرية التجريب فيما عداه. بهذا فقط تتحول خبرة الكبار إلى بوصلة، وجرأة الشباب إلى محرك.
لم تعد المسافة بين الأجيال تُقاس بالسن فقط، بل بالبنية الرقمية التي تعيد تشكيل الوعي. المنصات تغذي كل فئة بما يؤكد قناعاتها، فتتكون فقاعات تمنع الرؤية المتبادلة. يظن الكبار أن الشباب يعيشون في عالم من التفاهة، ويظن الشباب أن الكبار حبيسو عناوين قديمة؛ وكلا الطرفين أسير خوارزميات لا يراها. كسر هذه الفقاعات يبدأ بمساحات مشتركة للتعلم المتبادل: توجيه تقليدي ينقل الذاكرة، وتوجيه عكسي يشرح أدوات العصر، ومشاريع مشتركة تُقاس بنتائج عملية لا بالشعارات.
أزمة الثقة بين الأجيال ليست قدرًا مكتوبًا، بل نتيجة خياراتنا: إما أن نحولها إلى صراع يعمق الفجوة، أو إلى حوار يخلق توازنًا بين الحكمة والجرأة. وفي النهاية، الأجيال مثل حلقات سلسلة: لا قيمة لأي حلقة منفردة ما لم تتصل بما قبلها وما بعدها. فإذا انكسرت الثقة انكسرت السلسلة، وإذا أمسك كل جيل بيد الآخر عبر قيم مشتركة وأدوات متجددة، صار المجتمع قادرًا على عبور الزمن دون أن يفقد نفسه.