لميس ضيف تكتب: ثمن الصمت

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٨/أغسطس/٢٠٢٥ ١٤:٠٧ م
لميس ضيف تكتب: ثمن الصمت
في محكمة نورمبرغ، بعد الحرب العالمية الثانية، قال أحد المتهمين من المسؤولين الألمان: "لم أقتل أحدًا، كل ما فعلته أنني التزمت الصمت." كان الصمت هنا جريمة لا تقل عن الفعل، لأنه سمح للشر أن يتضخم دون مقاومة.
الصمت سلوك إنساني متناقض: قد يكون حكمة تحمي من زلل الكلمة، وقد يكون جبنًا يدفع ثمنه المجتمع كله. إننا نميل أحيانًا إلى الصمت لنحمي أنفسنا من الأذى، لكننا لا ننتبه أن ثمن هذا الصمت يتضاعف مع الزمن.
في العلاقات، الصمت عن الأخطاء الصغيرة يحولها إلى جدار عازل. في المجتمعات، الصمت عن الظلم يمنحه شرعية، حتى يصبح جزءًا من النظام. وفي الحياة الفردية، الصمت عن رغباتنا وأحلامنا يجعلنا غرباء عن أنفسنا.
لكن الصمت ليس دائمًا قرارًا فرديًا. في السياسة والاجتماع، يُستثمر الصمت كأداة هيمنة. الحاكم المستبد لا يطلب من شعبه أن يصفق له فحسب، بل يطلب منه أيضًا أن يصمت حين يرى الخطأ. وكلما سكت الناس عن القليل، تنازلوا عن الكثير. إن أكبر الديكتاتوريات لم تُبنَ على أصوات مؤيدة فقط، بل على جموع صامتة، اعتقدت أن الكلام لا يغير شيئًا. وهنا تكمن خطورة الصمت: أنه ليس حيادًا، بل مشاركة في صناعة واقع مائل.
وهناك أيضًا الصمت الداخلي، حين نكبت أصواتنا الأكثر صدقًا. قد يصمت المرء عن قول "أحب" أو "أكره" أو "أريد"، فيتحول صمته إلى مرض يتآكل من الداخل. كم من أشخاص يبتسمون في وجوه الناس لكنهم صامتون أمام أنفسهم، عاجزون عن التعبير عما ينهش أرواحهم؟ هذا الصمت لا يحميهم، بل يقتلهم ببطء.
الطريق الأسهل دائمًا هو الصمت: ألا تجادل، ألا ترفض، ألا تعترض. لكنه طريق مكلف، لأن الكلمات غير المنطوقة لا تموت، بل تتحول إلى أعباء في الداخل، أو إلى أنظمة فاسدة في الخارج.
ومع ذلك، ليس الحل أن نصيح طوال الوقت. الحكمة تكمن في التمييز: متى يكون الصمت قوة ومتى يتحول إلى خيانة. الصمت قد يكون مقاومة حين نرفض الانجرار وراء التفاهة، وقد يكون مشاركة في الجريمة حين نسكت عن الظلم.
الصمت في النهاية ليس مجرد غياب للكلام، بل قرار يحدد ملامح حياتنا ومصير من حولنا. وحين يقف التاريخ ليحاسبنا، لن يذكر فقط ما قلناه، بل ما صمتنا عنه.