الإبادة في غزة: أمريكا تدير والعرب يصمتون
اطلعتُ قبل أيام على مقال لا أذكر اسم كاتبه، تناول فيه طبيعة السياسة الخارجية الأمريكية، وكيف أنها تسير منذ عقود على نهج هندسه هنري كيسنجر، يقوم على إدارة الأزمات لا حلها، وعلى إبقاء النزاعات مشتعلة بما يكفي لاحتوائها لا لإنهائها. توقفت طويلًا عند هذه الفكرة، ثم وجدت نفسي أربطها مباشرة بما يحدث اليوم في غزة.
فالولايات المتحدة التي انشغلت مؤخرًا في البحث عن صيغة تُنهي أو على الأقل تجمّد الصراع الروسي–الأوكراني، تركت غزة وحدها أمام آلة الدمار الإسرائيلية، تُباد فيها العائلات وتُمحى الأحياء عن بكرة أبيها، وكأن دماء الفلسطينيين ليست جزءًا من الحسابات الإنسانية أو السياسية. هنا يظهر بجلاء أن واشنطن لم تفارق بعد عقيدة كيسنجر: الحل ليس مطلوبًا، بل الإدارة والتحكم.
منذ اندلاع العدوان، لم تُبدِ أمريكا أي إرادة حقيقية لوقف المجازر. كل ما فعلته هو إدارة المشهد بما يحفظ لإسرائيل غطاءً دوليًا، وبما يُبقي أبواب "الوساطة الأمريكية" مفتوحة أمام العالم. فهي تزوّد الاحتلال بالسلاح والغطاء السياسي، وتلوّح بوقف إطلاق نار مؤقت لا يمس جوهر المأساة، وتستخدم الفيتو في مجلس الأمن لتعطيل أي قرار يُلزم بوقف الإبادة.
السياسة الأمريكية – كما رسّخها كيسنجر – تقوم على مبدأ "التحكم لا الحسم"، حيث تُغذّى النزاعات بما يكفي لإبقائها مشتعلة ولكن دون انفجار شامل، بحيث تبقى الحاجة قائمة إلى الوسيط الأمريكي والسلاح الأمريكي والقواعد الأمريكية. وهكذا تُدار الأزمات لا تُحل، ويُستنزف الأطراف بينما تقدّم واشنطن نفسها كراعٍ للتهدئة لا كصانع للتصعيد.
إنها ذات المدرسة التي بشّر بها كيسنجر حين قال: "السلام الدائم وهم، والممكن هو استقرار قابل للإدارة." وها نحن نرى غزة اليوم تُقدَّم نموذجًا حيًا لذلك: لا سلام يوقف النزيف، ولا حسم ينهي الاحتلال، بل إدارة طويلة لأمد المأساة، يتجدد معها الموت ويُرحّل معها الحل.
لكن فاجعتنا اليوم أنّ غزة تدفع ثمن هذه العقيدة. اثنان وعشرون شهرًا من العدوان الوحشي (منذ أكتوبر 2023)، إبادة بحقّ الأطفال والنساء والشيوخ، وحصار لم يترك للناس طعامًا ولا دواءً ولا ماء. ورغم القمم العربية والإسلامية، لم تستطع تلك القمم إدخال حتى قطرة ماء إلى العطاش في غزة. هذا غياب – أو بالأحرى خذلان – يفوق التفسير.
المشهد الأكثر فظاعة كان مؤخرًا: طفلة خرجت تبحث عن جرعة ماء لأسرتها، فإذا بطائرات العدو تقتنصها بدمٍ بارد. أي قسوة هذه؟ وأي صمت ذلك الذي مكّن القاتل من التمادي ليصل إلى التلويح باحتلال غزة بالكامل؟
والمفارقة أن واشنطن تخشى انهيار أوكرانيا أمام روسيا، فتسعى بكل قوتها للحفاظ على توازن الميدان هناك، بينما تترك غزة لتنهار بالكامل، بل وتشارك في الانهيار بدعمها لإسرائيل. هذه الازدواجية ليست مجرد انحياز أعمى، بل تجسيد عملي لعقيدة كيسنجر التي ترى في إطالة أمد الصراع وسيلة لإبقاء الأوراق في اليد الأمريكية. واشنطن التي ترفع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، تقف اليوم عارية أمام الدم الفلسطيني، شريكة في جريمة تُبث على الهواء مباشرة.
ونتيجة لهذا الخذلان، تمادى العدو وهو يسعى الآن لاحتلال القطاع بالكامل بدءًا بمدينة غزة، وزاد نتنياهو على ذلك بخطاب يلمّح فيه إلى مشروع "إسرائيل الكبرى"، باقتطاع أراضٍ من دول مجاورة، بعضها وقّع معه اتفاقيات سلام وتطبيع. والأغرب أن هذا الخطاب مرّ دون أي ردود فعل تُذكر، لا عربية ولا إسلامية ولا دولية، وكأن العالم تقبّل التهديد كأمر عابر. فإذا كان هذا حاله مع من قدّموا له أوراق الاعتماد، فما فائدة الاتفاقيات إذًا؟ وما جدوى التطبيع مع عدو يوسّع أطماعه كلما ازداد الصمت من حوله؟
لكن المأساة لا تقف عند حدود الموقف الأمريكي. فالمشهد العربي والإسلامي لا يقل إيلامًا، إذ لم يعد أحد قادرًا على تفسير هذا العجز أو الصمت أو التواطؤ. عُقدت قمم وصدرت بيانات، لكن الواقع المرّ أن تلك القمم لم تستطع حتى إدخال قطرة ماء إلى أطفال غزة الجائعين العطاشى، ولا رفع الركام عن جثامين الأبرياء. أي خذلان أكبر من أن ترى الأمة كلها عاجزة عن منع تجويع شعب أو وقف مجزرة تبث صورها على الهواء مباشرة؟
من جهة أخرى، يُظهر تحليل الدكتور محمد عياش الكبيسي، استنادًا إلى ما أشار إليه شمعون بيريز في كتابه الشرق الأوسط الجديد، أن "إسرائيل لا تملك الزخم البشري أو القدرة الاستراتيجية لتحقيق نصرٍ كلي دائم على العرب"، وأن تصريحات نتنياهو عن "إسرائيل الكبرى" بين الفرات والنيل هي أحلام غرور لا أكثر. وإذا كان جيشه قد عجز عن حسم المعركة في قطاع صغير كغزة بعد أكثر من 22 شهرًا، فكيف يمكنه التمدد إلى مساحات أوسع بألف مرة؟
وفي الأثناء، أبلغت حركة حماس الوسطاء – من مصر وقطر – موافقتها على المقترح الأخير لوقف إطلاق النار لمدة 60 يومًا، يتضمن تبادلًا للأسرى وتمهيدًا لتسوية شاملة. لكن الاحتلال لم يُصدر رده حتى الآن، ما يكشف أن المعرقل الحقيقي هو العدو لا المقاومة، وأن المبادرات العربية تصطدم بجدار القتل الصلب.
غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا محاصرة، بل امتحان مفتوح لكل الضمائر: العدو يقتل ويدمّر، أمريكا تدير وتناور، والعرب صامتون بين العجز والخذلان. وبين طفلةٍ تُقتنص وهي تبحث عن الماء، وقيادات تلوّح بأحلام التوسع من الفرات إلى النيل، تتضح الحقيقة المرة: أن ما يهدد وجودنا ليس سلاح العدو وحده، بل خواء الموقف وضعف الإرادة. وإذا لم تستيقظ الأمة على هذا الدرس، فسنظل ندور في حلقة السقوط ذاتها، فيما غزة – بدمها وصمودها – تكتب المعنى الحقيقي للعزة والكرامة.