لميس ضيف تكتب: رحلة البحث عن الملامح

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٩/أغسطس/٢٠٢٥ ١٤:٤١ م
لميس ضيف تكتب: رحلة البحث عن الملامح

في أسطورة سيزيف، حُكم على البطل الإغريقي أن يدحرج صخرة ضخمة إلى قمة جبل، لكنها كانت تسقط في كل مرة قبل أن يبلغ القمة. بدا الأمر وكأنه عقاب أبدي بلا معنى. لكن الفيلسوف ألبير كامو رأى في سيزيف رمزًا لقصة الإنسان: أنه يعيد المحاولة ما دام حيًا، ويكتسب هويته وقوته من معركته التي تمنح لحياته معنى.

هكذا هي رحلة الإنسان نحو الحياة. لسنا صفحة بيضاء تملؤها الصدف، ولا نسخة مكررة من آبائنا وأجدادنا. نحن أقرب إلى سيزيف، نجر صخرتنا الخاصة وسط أسئلة الهوية:

من نكون؟ وإلى أي قضية ننتمي؟ وما الذي نريد أن نتركه وراءنا؟

لكن، ماذا يحدث حين تطمس الرؤية ويغيب الوعي عن كل تلك العملية؟ أليس هذا ما نشهده اليوم في مجتمعاتنا من تخبط في الميول والانتماءات؟ ترى الشاب يعيش بهوية هجينة؛ نصفها مستورد من ثقافة العولمة ونصفها الآخر بقايا موروث لم يمحصه ولم يفكر فيه. وترى الفتاة تائهة بين قيم الأسرة وضغوط الجماعة وإغراءات الصورة اللامعة على الشاشات. نرى أجيالًا ترفع شعارات متناقضة، وتتنقل بين انتماءات لحظية كما لو أنها تختار أزياء موسمية. هذا التشظي لا يخلق أفرادًا أحرارًا، ولا أفرادًا منتجين، بل أفرادًا هشين، يسهل استدراجهم إلى أي تيار عابر. ومن لم يحدد صوته الخاص، سيختطف صوته من قبل الآخرين، ويعاد تشكيله وفق أهواء السوق أو أجندات القوى الكبرى. إن غياب وضوح الهوية ليس فراغًا بريئًا، بل ثغرة تستغل، وساحة معركة يتصارع فيها كل ما هو خارجي على إنسان لم يعرف بعد من هو في الداخل.

في عالم اليوم، الهوية ليست ورقة رسمية ولا مجرد اسم عائلة. الهوية مشروع يُبنى، وصوت داخلي يتشكل عبر ما نختار أن نؤمن به وما نرفضه. من لم يصنع هويته بيده سيجد نفسه أسير هويات الآخرين، خاضعًا لإملاءاتهم، فاقدًا صوته.

الطريق إلى الهوية ليس خطًا مستقيمًا، بل هو معركة مع الداخل والخارج: الداخل الذي يجرنا نحو التردد والشك وإعادة التفكير في ما هو قائم، والخارج الذي يغرقنا في محاولات التشكيل القسري. لكن المجد ليس في بلوغ النهاية، بل في الإصرار على أن تكون مشروعًا لا يتوقف في الوصول إلى قمتك الخاصة.

الهوية ليست نقطة وصول، بل مسيرة لا تنتهي. كل يوم نصوغها من جديد، نخطئ ونصيب، نسقط وننهض. ومن يجرؤ على أن يسأل نفسه بصدق: من أنا؟، سيظل أقرب للحقيقة من أولئك الذين تركوا السؤال لغيرهم.