منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، تغيّر المشهد الثقافي العالمي جذريًا. أصبحت السينما القوة الإبداعية الأبرز لدمجها التكنولوجيا بالجماهيرية، بينما انحسر المسرح تدريجيًا في دائرة النخبة والمهرجانات الرسمية.
في الوطن العربي، تكشف الأرقام عن هذا التحول الكبير: فقد بلغت إيرادات السينما في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نحو 1.8 مليار دولار أمريكي عام 2020، ومن المتوقع أن تصل إلى 3.5 مليار دولار أمريكي بحلول 2028. وفي السعودية حققت الصناعة منذ 2018 نحو 986 مليون دولار أمريكي. أما في الإمارات، فقد تجاوزت إيرادات شباك التذاكر 217.8 مليون دولار أمريكي في 2024، من خلال بيع أكثر من 15 مليون تذكرة، مع شبكة عرض تضم 702 شاشة في 72 موقعًا.
هذه الأرقام تؤكد أن السينما تحولت إلى صناعة اقتصادية متكاملة، بينما بقي المسرح العربي مرتبطًا بالمهرجانات المحدودة والدعم الحكومي.
السينما في عُمان: واقع وإمكانات
الصورة في سلطنة عُمان أكثر تعقيدًا. فبحسب بيانات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، بلغت إيرادات السينما في عام 2021 حوالي 5.07 مليون دولار أمريكي، وتم عرض نحو 470 فيلمًا حضره حوالي 807,000 مشاهد.
تُشغّل VOX Cinemas – التابعة لمجموعة ماجد الفطيم الإماراتية – حوالي 63 شاشة، إلى جانب نحو 21 شاشة إضافية موزعة على 7 مواقع. ورغم أن هذه البنية جيدة، إلا أنها غير مستثمرة بما يناسب إمكانات عُمان الفريدة كسياحة سينمائية عالمية.
وتاريخيًا، بدأت العروض التجارية في عُمان مبكرًا، مع افتتاح أول دار عرض عامة في رُوي (مسقط) عام 1971.
فجوة التمويل والهيكلة
منذ انطلاق السينما التجارية، لم تتشكل بعد آلية دعم مستقرة للإنتاج السينمائي المحلي. معظم المهرجانات السينمائية في السلطنة تعتمد على رعايات مجتمعية، دون دعم من موازنة الدولة. وفي المقابل، تُنفق بعض المهرجانات المسرحية موازنات تصل إلى 2.6 مليون دولار أمريكي بين دعم مالي ولوجستي لعروض نخبوية محدودة التأثير الإعلامي والاقتصادي.
كذلك الحال مع الفعاليات الأوبرالية التي تستهلك مئات الآلاف لعروض محدودة الجمهور، دون استثمار في صناعة فنية مستدامة. في المقابل، يمكن لمبالغ أقل أن تصنع فرقًا في دعم السينما، باعتبارها فنًا جماهيريًا قادرًا على تحقيق انتشار وعوائد اقتصادية وثقافية مستمرة.
الأفلام الأجنبية: فرصة ضائعة
جذبت الطبيعة المتنوعة لعُمان عددًا من الإنتاجات الأجنبية، خاصة الأفلام البوليوودية وبعض الأعمال العالمية. مواقع كالموانئ والشواطئ والجبال شكلت مسارح لتصوير عالمي.
لكن رغم التسهيلات الكبيرة التي تقدمها السلطنة – من تصاريح مجانية ودعم لوجستي – فإن أغلب هذه الأفلام تجاهلت اسم عُمان أو أظهرت المواقع كأنها في دبي أو الهند، وهو ما يُعدّ إهدارًا لفرص التسويق السياحي والثقافي.
في المقابل، دول مثل المغرب والأردن ودبي ونيوزيلندا استفادت من إنتاجات هوليوود وبوليوود، وجعلت من مواقع التصوير معالم سياحية عالمية، وحرصت على ذكر تلك المواقع بشكل مباشر في الأفلام.
الاستثمارات الدولية والواقع
من بين الأفكار الطموحة التي طُرحت مؤخرًا، مشروع Film City في بُركاء، الذي قيل إنه سيُقام باستثمار قدره 31 مليون دولار أمريكي ويوفر أكثر من 100 وظيفة عُمانية. وهناك مشروع آخر في الدقم بتكلفة 26 مليون دولار أمريكي. لكن لا تزال الأسئلة قائمة: هل هذه المشاريع قائمة فعلًا؟ هل تم إشراك صناع السينما المحليين في التخطيط لها؟ ولماذا تغيب الشفافية حول تفاصيلها؟ أم أنها توقفت دون إعلان واضح؟
وبما أن هذه المشاريع – وفق المعطيات – استثمارات خارجية، فهل نتركها بلا بنية تحتية ولا كوادر مؤهلة، لتُدار من قِبل طامعين يجهلون أساسيات الإنتاج السينمائي، مثلما تفشل شركات الطيران حين تُسند لمديرين ووزراء لا يفقهون أبجديات إدارتها، فتظل تستنزف الأموال دون تعافٍ؟
السينما العُمانية: بين الفرص والقيود
المفارقة أن الأفلام العُمانية، رغم قدرتها على الترويج المباشر للبلاد، تواجه عقبات ضخمة تبدأ من البيروقراطية في التصاريح، مرورًا بالمراجعات الطويلة للنصوص، وصولًا إلى غياب التمويل الحقيقي.
في المقابل، يُنتج أكثر من 100 فيلم قصير سنويًا، تُعرض بمهرجانات محلية محدودة الأثر دون مردود اقتصادي. تكلفة عشرة أفلام قصيرة يمكن أن تموّل فيلمًا طويلًا قادرًا على المنافسة عالميًا وفتح أبواب السياحة.
تمتلك عُمان تنوعًا طبيعيًا وجغرافيًا هائلًا، من الجبال الخضراء إلى الشواطئ والصحارى، يمكن أن يجعلها على خريطة السينما العالمية، كما حدث مع المغرب أو نيوزيلندا.
خطط وحلول للنهوض بالسينما العُمانية
للنهوض بصناعة السينما في السلطنة، لا بد من رؤية استراتيجية متكاملة تشمل:
1. إنشاء صندوق دعم سينمائي وطني بتمويل حكومي وشراكات خاصة، يركز على إنتاج الأفلام الروائية الطويلة بدلًا من تشتت الجهود في عشرات الأفلام القصيرة.
2. تطوير البنية التحتية عبر استوديوهات مفتوحة ومراكز خدمات سينمائية لاستضافة إنتاجات عالمية.
3. إبرام شراكات مع منصات البث العالمية مثل نتفلكس وأمازون برايم لتوزيع الأفلام العُمانية.
4. ربط السينما بالسياحة عبر برامج "السياحة السينمائية" التي تروج للمواقع الطبيعية والتاريخية.
5. تبسيط الإجراءات الرسمية من خلال نافذة موحدة للتصاريح، بعيدًا عن التعقيدات البيروقراطية.
6. إنشاء مركز وطني للسينما لتنسيق الجهود بين الحكومة والقطاع الخاص، وضمان الشفافية ومتابعة المشاريع.
الخاتمة: رؤية نحو المستقبل
تراجعت الدراما المحلية بسبب غياب الاستثمار والرؤية، والسينما مهددة بالمصير ذاته. المشاريع السينمائية الجديدة – إن نُفذت بجدية – قد تفتح صفحة لصناعة سينمائية حقيقية، وتعيد رسم المشهد الثقافي والاقتصادي لعُمان. عُمان بحاجة إلى هذه النقلة النوعية، وإلا ستبقى رهينة مبادرات فردية وأفلام قصيرة بلا أثر.