موسى الفرعي يكتب للشبيبة: من قلب نيويورك.. تحولات العمق الأمريكي بعد ٧ أكتوبر

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠٢/يوليو/٢٠٢٥ ١١:٠١ ص
موسى الفرعي يكتب للشبيبة: من قلب نيويورك.. تحولات العمق الأمريكي بعد ٧ أكتوبر
موسى الفرعي

في لحظة قد تبدو للبعض عابرة، لكنها في ميزان التحولات السياسية والاجتماعية الأمريكية لحظة مفصلية، يتربع زهران ممداني، المسلم الأسيوي المهاجر، على عرش بلدية نيويورك، واحدة من أعقد المدن الأميركية وأكثرها رمزية. ابن المهاجر الجنوب آسيوي، وناشط اجتماعي معروف بمواقفه المناصرة للعدالة، يدخل التاريخ كأول مسلم يشغل منصب عمدة نيويورك. رجلٌ يحمل ملامح الضواحي الأسيوية، وصوت الجاليات المهمشة، يجلس اليوم في مقعد كانت تمليه في العادة شروط القوة الناعمة والخفية التي تحكم المدينة: المال، النفوذ، وتوازنات الجالية اليهودية.

فنيويورك ليست مجرد مدينة عادية، بل هي الواجهة التي تكتب بها أميركا صورتها للعالم، موطن الإعلام الأكبر، والمال الأكبر، والأصوات المختلطة من كل أطياف الأرض. إنها مدينة اليهود والنخبة الليبرالية، ومصدر القرار غير المعلن في الكثير من السياسات الأميركية. أن يصل مسلم مهاجر إلى رئاسة بلديتها ليس حدثًا محليًا، بل مؤشرٌ على تصدعٍ ما في تركيبة صناعة القرار، أو على الأقل، في المزاج الشعبي العام.

لم يكن الهجوم الذي شنّته حماس في 7 أكتوبر على المستوطنات الإسرائيلية حدثًا عابرًا في الشرق الأوسط، بل بدا وكأنه زلزالٌ امتدت ارتداداته إلى الضمير الغربي، ثم إلى العمق الأميركي ذاته. مشاهد الدم والدمار، وردّ الفعل الإسرائيلي الذي وُصف بأنه "غير متناسب" من قبل حلفاء إسرائيل أنفسهم، كشف غطاء أخلاقيًا ظلّت الدعاية الإسرائيلية تحكم به صورة "الضحية" لعقود. خرجت الجامعات، ثم الشوارع، ثم بعض الأصوات في الكونغرس. بدأ الانقسام في الحزب الديمقراطي ذاته، ولم يعد الدعم المطلق لإسرائيل أمرًا مسلمًا به، بل صار مكلفًا سياسيًا في بعض الدوائر الانتخابية.

في هذا السياق، لا يمكن قراءة صعود زهران ممداني إلى واجهة القرار في نيويورك كحدث معزول، بل هو نتاج لحركة اجتماعية بطيئة لكنها متراكمة، ترفض سيطرة اللوبيات التقليدية، وتبحث عن وجوه تعبّر عن التنوع الحقيقي للمجتمع الأميركي. إنه تصويت احتجاجي صامت على الدعم المطلق لإسرائيل، وعلى ازدواجية الخطاب الأخلاقي، وعلى تجاهل أصوات الملايين من المسلمين، والعرب، وحتى الأميركيين البيض الذين تعبوا من خطاب الحرب والاصطفاف الأعمى.

السنوات القادمة في الولايات المتحدة تبدو مرشحة لإعادة تشكيل جوهر الهوية الأميركية. لم تعد المسلمات القديمة تصمد أمام ضغط الشارع، ولا يمكن لمراكز النفوذ التقليدية أن تضمن سطوتها كما في السابق. إن فوز زهران ممداني برئاسة بلدية نيويورك قد يكون بداية، لا نهاية، لتحول أكبر. تحول قد يعيد ترتيب العلاقة بين أميركا والعالم، وبين الداخل الأميركي نفسه. ومن المؤكد أن ما بعد 7 أكتوبر ليس كما قبله، لا في غزة، ولا في واشنطن، ولا في شوارع نيويورك.