في زمن يختلط فيه التصفيق بالضجيج، وتُقاس القيمة بالماديات وعدد المتابعين ، تغيب الأضواء عن ساحات البطولة الحقيقية. البطولات التي لا تجري على الشاشات، بل تُمارَس كلّ صباح على نارٍ هادئة، في مطبخٍ صغير، أو شارع طويل، أو وردية متواصلة في عمل خانق.
في العالم العربي، يعمل أكثر من 52٪ من السكان في عمل غير رسمي، بحسب تقرير منظمة العمل الدولية لعام 2024، أي دون عقود ثابتة، أو تأمين صحي، أو حماية تقاعدية. ومع ذلك، تُبنى المدن على أكتاف هؤلاء: السيدة التي تدير المنزل شهريا بميزانية لا تكفي أسبوعًا، سائق الحافلة الذي يقطع مئات الكيلومترات يوميًا دون أي ضمان، أو البائع الذي يقف تحت الشمس ليُشيّد حياته.
ليست هذه مشاهد عابرة، بل نمط حياة يُعاد كل يوم دون أن يُوثّق، ودون أن يُدرَّج في قوائم "البطولة " أو يُمنح جوائز. ربة المنزل التي تبدأ يومها قبل طلوع الشمس ، العامل الذي لا يعرف معنى "نهاية الأسبوع"، والممرضة التي تُؤجّل وجعها ودموعها لتخفّف عن آخرين، جميعهم يمارسون بطولةً صامتة، مستمرّة، بلا أضواء ولا تصفيق.
لو قلبنا صفحات الواقع العربي، سنجد في كواليس النجاحات الكبرى أمهات بسطاء حرمن أنفسهن من أبسط الأشياء ليُكمل أبناؤهنّ دراستهم. كثير من الأطباء والباحثين العرب الذين لمعوا ورائهم أب كادح وأم عنيدة مضحية ..
وراء صعود فنانة بحجم فيروز، والدتها البسيطة التي كانت تخيط الثياب لأخذها لدروس الموسيقى. ووراء أحمد زويل، أم مصرية تُحضّر طعامه في الفجر وتحارب رغم ضيق العيش لتفرغ أبنها لدراسته.
أبحثوا في حياة المخترع المصري مصطفى السيد، والعداء المغربي هشام الكروج أحد أعظم الرياضيين في التاريخ الأولمبي . وقصة الشيف العالمي أسامة السيد لتعرفوا أن وراء كل عظيم منهم بطل مجهول.
البطولة ليست دوماً في الواجهة، بل كثيرًا ما تكمن في الدور الصغير الضروري كالمسمار الأخير في الجسر. هؤلاء، هم الأعمدة الخفيّة التي لا يراها أحد… لكنها تحمل السقف.
اليوم، وفي ظل أزمة غلاء المعيشة وتضخّم الأسعار، تزداد الفجوة بين من يصنع الحياة ومن يُصدّر الصورة. نحن بحاجة للاعتراف بالدور الكبير لتلك الطبقات التي تقدم لنا فعليا أكثر مما يقدمه كثير من اللامعين دون منجز .ففي زمن يطغى فيه صانعو المحتوى على صانعي الخبز، يُصبح من الواجب أن نعيد توزيع الضوء.
كان نيتشه يقول :
"البطولة الحقّة دائما ما تقاوم في صمت."
ومسؤوليتنا، نحن من نمتلك الحناجر، أن لا نخلق لهذا الصمت صدى. ونذكر بالأبطال الحقيقيين ونعيد الاعتبار للقيمة الحقيقية، ولأولئك الذين يرفعون المدن كل يوم ولا يُذكرون.