قضيت ثلاثة أيام ممتعة، خلال الأسبوع الماضي، في سلطنة عمان الشقيقة، منها يوم الأحد الذي كان مقررًا له أن يكون اليوم الذي ستعقد فيه الجولة السادسة من المفاوضات النووية الأميركية الإيرانية، التي تعقد تحت الرعاية العمانية، والتي تم إلغاؤها بعد أن نشبت الحرب بين إيران وإسرائيل قبلها بيومين.
ومنذ منتصف السبعينات من القرن الماضي وأنا أزور عمان بشكل منتظم، أو بين فترة وأخرى، وأستطيع أن أدعي أنني، من بين الملايين، من شهود العيان على ما شهدته عمان من تطور ونمو مطرد على كافة الأصعدة والمحاور، في مسيرة زاخرة أرسى قواعدها وقادها، لما يقرب من نصف قرن، صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، الذي سلم رايتها، بعد أن اختاره الله إلى جواره في العام 2020، إلى صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ووفقه وسدد خطاه.
نعم، كل شيء في عُمان ينمو ويتطور ويتغير بوتائر متسارعة، باستثناء شيء واحد ظل ثابتًا لا يتبدل: طبيعة الإنسان العُماني. فقد ظل هذا الإنسان وفيًّا لجوهره، متمسكًا بصفاته الأصيلة من طيبة وتواضع ودماثة خُلق وكرم وأريحية قلّ نظيرها. ويمكنني، دون تردد أو مبالغة، أن أقول إن هذه الخصال الحميدة تكاد تكون سمة عامة لدى جميع العُمانيين، من الوزير إلى الموظف البسيط، ومن الغني إلى الفقير، ومن المدير إلى سائق التاكسي، وفي كل زاوية من زوايا السلطنة الرحبة.
وإضافة إلى التعرف على بعض جوانب التطور الصناعي في صحار، فقد حرصت هذه المرة على التعرف والاطلاع بشكل أقرب على المزيد من المعلومات والحقائق عن المذهب الإباضي، الذي يُعرف أتباعه أيضًا باسم “أهل الحق والاستقامة”، والذي تعتبر سلطنة عمان، حاضنته أو حاضرته، وإن شئت أن تقول هو مذهب الدولة، رغم أن العمانيين لا يحبذون ادعاء ذلك، ولا يهتمون بالإجابة حتى عن نسبة الإباضية بين السكان، بحيث تراوحت التقديرات التي سمعتها بين 45 % و70 %.
ولطالما رغبت، ولا أزال، في التعرّف بشكل أعمق على هذا المذهب الإسلامي، انطلاقًا من اهتمامي بقضايا الحوار، والتفاهم، والتعايش، والتواصل، والتقريب بين المذاهب والمعتقدات، على قاعدة الاحترام المتبادل. وهو هدف نبيل لا يتحقق إلا من خلال تعزيز المعرفة، وتكثيف الجهود للتعريف بحقائق هذه المذاهب بعيدًا عن الصور النمطية أو الأحكام المسبقة.
فالجهل بالآخر هو البوابة الكبرى لسوء الفهم، وللاختلاف الممزِّق، وربما للتنافر والكراهية والبغضاء. ومن هنا، فإن أفضل السبل للتعرف على أي مذهب أو معتقد إنما تكون عبر العودة إلى مصادره الأصلية، والاستماع إلى علمائه ومثقفيه، أي أن نعرف “منهم” لا “عنهم”.
وقد قرأت كثيرًا عن المذهب الإباضي، مستفيدًا من مصادر متنوعة، بعضها من داخل المذهب ذاته، وبعضها من مناوئيه الذين كثيرًا ما ينظرون إليه بعدسة الخلاف العقائدي أو السياسي. وفي زيارتي الأخيرة إلى مسقط، واستجابة لرغبة شخصية في فهم أعمق، رتّب لي أحد الأصدقاء المقربين لقاءً مع مجموعة من المثقفين والمطلعين من أتباع هذا المذهب، فدار بيننا حوار ممتد وصريح. بدأت الحديث بسؤال مباشر قد يُعدّ استفزازيًا: ما حقيقة ما يُشاع عنكم من أنكم امتداد للتيار الخارجي؟ وهل صحيح أنكم تكفّرون بعض كبار الصحابة، وعلى رأسهم الخليفة الراشد عثمان بن عفّان، والإمام علي بن أبي طالب، إلى جانب الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان؟
جاءت الإجابات هادئة وعميقة، عكست حرصًا على التوضيح لا التبرير. أكد الحضور أن المذهب الإباضي يرفض الوصم بالخارجية، رغم الجذور التاريخية المشتركة في المراحل المبكرة، وأنهم لا يكفّرون أحدًا من الصحابة، بل يميزون بين الموقف السياسي والاجتهادي، وبين الانتماء العقدي. كما أوضحوا أن الإباضية يتعاملون مع سيرة الخلفاء والصحابة من منظور “الولاية والبراءة” لا من منظور التكفير أو التفسيق، ويؤمنون بأن لكل مرحلة ظروفها، ولكل اجتهاد مآله.
وبعد نقاش علمي، عقلاني ورصين، وتعزيزًا لما كنت قد اطّلعت عليه من قبل، وصلتُ في نهاية الحوار إلى خلاصة راسخة بأن المذهب الإباضي اليوم يُعد من المذاهب الإسلامية المنتمية بصفاء وصدق إلى بوتقة الإسلام الحنيف، بل ومن أكثر المذاهب جنوحًا نحو التسامح، والتعايش، والسلم، والاعتدال. ولعل أبلغ دليل على ذلك هو ما يتمتع به المجتمع العُماني من حالة متميزة من الانسجام والوئام، حيث يتعايش أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة، من إباضية وسُنة وشيعة، في نسيج اجتماعي متماسك، تحكمه روح الاحترام المتبادل وتظلله مظلة المواطنة الجامعة.
صحيح أن الجذور التاريخية للمذهب الإباضي تعود إلى الفترة التي أعقبت معركة صفّين، حين خرجت جماعة من جيش الإمام علي بن أبي طالب احتجاجًا على القبول بالتحكيم بعد أن رفع جيش معاوية المصاحف على أسنّة الرماح، فرفعت المجموعة الخارجة حينها شعار “إن الحكم إلا لله”، وهي العبارة التي وصفها الإمام علي بأنها “كلمة حق يُراد بها باطل”. لكن بينما انجرت معظم فرق الخوارج لاحقًا إلى العنف وسفك الدماء، كالأزارقة والصفرية وغيرهم، ظهرت فرقة منهم رفضت هذا النهج الدموي، وكان على رأسها أبو بلال مرداس بن حدير، الذي دعا إلى عدم استحلال دماء المسلمين، واتبعه مناصروه فيما عُرف لاحقًا بفرقة “القَعَدة”، وهو وصف استخفّ به بهم الخوارج الآخرون، لقعودهم عن استخدام السيف ضد مخالفيهم.
ومن هذا التيار السلمي نشأ لاحقًا المذهب الإباضي، نسبة إلى عبد الله بن إباض التميمي، الذي عُرف كأحد أبرز المنظّرين والدعاة، بينما يرى الإباضيون أن المؤسس الحقيقي لمذهبهم هو التابعي الجليل جابر بن زيد الأزدي، الذي يُعد من كبار علماء التابعين، وقد نهل من علم ابن عباس، وروى الحديث عن عدد من الصحابة، وتميّز بعقلانية منهجه واتزانه الفقهي.
لم يكن المذهب الإباضي مجرد منظومة عقدية وفقهية، بل كان عاملًا أساسيًا في تشكيل ملامح الشخصية العُمانية، وبناء الدولة الحديثة التي تميزت بخصوصية واضحة في نهجها السياسي والاجتماعي. فالإباضية، بما يحملونه من قيم الشورى، والزهد، والعمل، والمسؤولية الجماعية، أسهموا في ترسيخ ثقافة سياسية تقوم على التوازن والاعتدال، وتنبذ الغلو والتطرف.
وقد تجلّت هذه الروح في التاريخ السياسي العُماني، لاسيما في تجربة “الإمامة” التي قامت على مبدأ اختيار الإمام بالشورى لا بالوراثة، وما رافقها من نظام حكم أقرب إلى فكرة التعاقد الاجتماعي. كما أن الفكر الإباضي طوّر منظومة فقهية أصيلة، ركزت على الاجتهاد والمصلحة العامة، وأسهم علماؤه، مثل نور الدين السالمي، ومحمد بن يوسف أطفيش، وغيرهم، في إثراء الفكر الإسلامي بكتابات تجمع بين عمق الفقه ونقاء الروح.
وفي الحاضر، تتجلى هذه القيم في سياسة سلطنة عُمان التي تتسم بالحياد الإيجابي، والدبلوماسية الهادئة، والانفتاح على الجميع دون الوقوع في الاستقطابات المذهبية أو السياسية. وهو ما جعل عُمان نموذجًا فريدًا في المنطقة، يجسّد الإمكانات الكامنة للتعدد المذهبي حين يُدار بالحكمة، ويُحاط بالثقة والتقدير المتبادل.
إن التجربة العمانية، بما تحمله من تراث إباضي عريق وروح وطنية جامعة، تقدّم للعالم الإسلامي نموذجًا جديرًا بالتأمل والاحتذاء. نموذج يثبت أن التعددية المذهبية ليست عبئًا على وحدة الأمة، بل هي مصدر ثراء فكري وروحي، متى ما أحسنّا إدارتها، وأخلصنا النية في تحويل الخلاف إلى اختلاف بنّاء، لا إلى شقاق مدمّر.
لقد آن الأوان لأن نخرج من أسر التصنيفات الضيقة، وننفض عن وعينا غبار القرون التي اجترّت الخلاف وأوغلت في الاتهام والإقصاء. فالإسلام الذي وسِع الصحابة باختلاف اجتهاداتهم، وأئمة المذاهب بتباين آرائهم، هو الإسلام نفسه الذي لا يزال يتسع لكل مخلص في عقيدته، صادق في إنسانيته.