علي المطاعني يكتب: لا تحتقر عمل أحد

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١١/يونيو/٢٠٢٥ ١٦:٥٥ م
علي المطاعني يكتب: لا تحتقر عمل أحد
علي بن راشد المطاعني
في المجتمعات التي تحترم الإنسان، لا يُقاس الناس بمناصبهم، ولا بأزيائهم الرسمية، ولا بسياراتهم، ولا بمتاعهم الدنيوي الفاني. ولنا في المدينة الفاضلة التي أرسى دعائمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة أسوة حسنة عندما آخى بين المهاجرين والأنصار، وفيها قُتلت (الأنا) المريضة والمعتلة، وفيها عرف الناس معنى أن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وعلى هذه الأعمدة النورانية انطلقت رسالة المصطفى لتعم الأرض مبشرة بالعدل والإنصاف وهو سر الوجود. ومن هناك علمنا بأن الإنسان هو الذي ينكر ذاته من أجل أخيه الإنسان، لا يظلمه ولا يبخسه حقه ولا يزدريه بزعم أنه الأفضل والأطول عنقا، ومن هذه المدينة الفاضلة تعلّمنا الكثير من أبجديات التعايش بين الناس على أسس الإخاء والمساواة، وعلمنا أن أفضل الناس هم أنفعهم للناس، كما جاء في الحديث الشريف (لله رجال اختصهم بقضاء حوائج الناس، حبّبهم إلى الخير وحبّب الخير إليهم، إنهم الآمنون من عذاب يوم القيامة) وهنا رُفعت الأقلام وجُفّت الصحف. وهو ما يجب ان نعيه و نطبقه على أرض الواقع.
غير أننا اليوم نعيش في عصر مختلف، عصر تتعالى فيه الأصوات حول التمكين والتقدير والتنوع، وسادت فيه ظاهرة "التقليل من شأن الآخرين" الممقوتة في القرآن الكريم، والمستهجنة في تعاليم المصطفى حدّ الثمالة، وهي مرض اجتماعي ما برح موجودًا ولا يخفى على أحد، نرى هذه الظاهرة رأي العين ماثلة في المجتمع وتمشي بيننا اختيالا وزهوًّا وغرورا، الأمر الذي يبعث على الألم والحزن من هكذا ممارسات في مجتمعات تربت على القيم الدينية التي تدعو إلى احترام الآخر وتقدير وتوقير العمل الذي يؤديه ما بقي هذا العمل شريفًا ويفضي إلى حفظ ماء الوجه.
وفي كنف هذه الضبابية المقيتة، نجد بعضهم لا يرون النجاح نجاحًا إلا في الذي يحققونه هم لا غيرهم، وأن المجد بكل شموخه معقود فقط على نواصيهم دون سواهم، وأن ما يفعله غيرهم مهما كان نافعًا للناس وللمجتمع إلا أنهم يرونه محض سراب لايستحق التفاتًا ولا تصفيقًا ولا ذكرًا، رغم أن الله عز وجل قال في محكم كتابه على لسان شعيب عليه السلام وفي الآية 183 من سورة الشعراء وهو يخاطب قومه أهل مدين الذين فسدوا وبغوا في الأرض:
(وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) .. صدق الله العظيم.
اقترن بخس الناس أشياءهم بالفساد في الأرض على نحو صريح وفصيح، وهذا النوع من الفساد الوبيل يتجلّى عندما يقوم الذين يمشون في الأرض مرحًا وهم كثر للأسف في زماننا المنكود في حظه مع الأقدار عندما يسلبون جهد زملائهم، وينسبون أفكار غيرهم لأنفسهم بغير خجل، وكأنّ الفضل لا يجوز الاعتراف به إلا لهم، سواء في بيئات العمل التي تتكرر فيها هذه المآسي كثيرا وفي الغرف الاجتماعية المظلمة بسواد الظلم السائد فيها، والضحايا هم المجتهدون الصامتون الذين لا يُجيدون فنون الترويج لأنفسهم في قارعات الطرق، فيُقصَوْن أو يُهمَّشون، وتُمنح الجوائز والمكافآت لمن عرف من أين تؤكل الكتف الحرام، وهكذا الكثير من هذه الممارسات التي يندى لها الجبين خجلا وتقع في وضح النهار وحتى عندما يرخي الليل سدوله.
بل إن الأمر يتجاوز حدود وجدران المؤسسات، ليصل إلى النظرة المجتمعية لبعض المهن، فتراهم يزدرون عامل النظافة أو المزارع أو الحرفي، وكأن هذه الوظائف لا تستحق التقدير والتمجيد والإشادة رغم أن المجتمع لا يستغني عنهم لحظة ألم يقل أحد الحكماء: "لو توقف عامل النظافة عن عمله أسبوعًا، لاختنق المجتمع".
فاليوم، ما أحوجنا إلى ثقافة تُكرم الإنسان بوصفه إنسانًا، وتحترم عامل النظافة على سبيل المثال مثلما تحترم أكبر مسؤول، فلا ينبغي الاستهانة بأي عمل مهما كان ما دام شريفًا وطاهرًا، ولا يمكن أن نزدري مزارعًا يحرث الأرض ليأكل غيره، ولا من يُمسك المكنسة في الشارع ليزيل أوساخنا لا أوساخه، فكل هؤلاء الأعزاء مهمّون في حياتنا مثل الطبيب والقاضي والضابط فكلٌّ يؤدّي دوره وفق طبيعة عمله، وكلهم يكملون بعضهم بعضًا في منظومة الحياة التي تعتمد بنحو كامل على تكامل الأدوار، فهذه الثقافة النظيفة متى ترسخت في المجتمعات تغير فيها كل شيء للأفضل.
بالطبع القيم موجودة، والوعي بها يزداد ولكن هناك من يصرّ إصرارًا محمومًا لعل ذلك يرجع إلى ذاته التي تحبّ السير في طريق الجهالة المُفضي للندم الذي استشعره قابيل ابن آدم بعد أن قتل هابيل الضحية مدفوعًا بذات (الأنا) المريضة، وهي في الأساس أصل المعصية التي تجلّت في الحوار غائر المعاني عندما أمر ربُّ العزّة إبليس بالسجود لآدم عليه السلام، وهذا ما قالته لنا الآية 12 من سورة الأعراف (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) .. صدق الله العظيم.
إذن (أنا خير منه) هي الكارثة التي ما برحت تغطي سماوات مجتمعاتنا بسحب سوداء كالحة كأنها سحب العذاب تلك التي تجلت لقوم هود عليه السلام فظنوا أنها سحب الغيث، لكن العكس كان هو الصحيح، وكانت سحب العذاب والويل والثبور، وهذا ما وضحته لنا الآية 24 من سورة الأحقاف: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) .. صدق الله العظيم.
وعلى ذلك وبما أن (الأنا) المعتلة ما زالت تحتفظ بالريادة والقيادة فإننا بتنا نخشى حقيقة أن يأتينا (العارض) وهو ذات السحاب الذي تجلّى لقوم هود إن لم نعد سريعا لجادة الصواب وقبل أن يأتي الحساب.
نأمل أن نتحلى بالقيم القرآنية الإسلامية النبيلة ونزدري هوس التقليل من شأن الآخرين، وأن ننأي بأنفسنا سريعًا من فيروس أصل المعصية (أنا خير منه)، فالله عز وجل حرم الظلم على نفسه وبالتالي لن يسامح من ركب هذه الموجة العالية الكاذبة الخاطئة، ثم نقول في نهاية المطاف نسأل الله اللطف والسلامة ..