ثمة عبارة رقطاء تسلّلت إلى تفاصيل حياتنا اليومية، نكاد لا نراها بالعين المجرّدة، لكنها حاضرة وتتنفس بعمق وتمهّل وبصمت، وتؤثر سلبًا وقبحًا في السلوكات الفردية، وتعيد تشكيل العلاقات الثنائية والمجتمعية مؤدّاها: "من ليس معي فهو ضدي".
ولم تعد هذه الجملة حكرًا على مواقف متطرّفة أو نزاعات أو نزعات عقائدية، بل أضحت – للأسف – ثقافة تتغلغل لدى الأفراد وفي المؤسسات والمجتمعات، وتطغى بلؤم وتوحّش على الحوارات والنقاشات وفي كل المنصّات الإعلامية المتاحة، وتُحكِم قبضتها الحديدية على الإعلام، الأمر الذي يؤسف له، إذ نجد أن الكاتب مكبّل ومقيّد ومُلقى بين مطرقة الرضا من هذا وسندان الإلغاء من ذاك. فإما أن يكتب ما يريده "البعض" بحسب المزاج العام وميول المتابعين الهوجاء، وإما أن يختار الصمت والانزواء خشية التصنيف الأسود أو التشكيك وصولًا به لغاية التشهير حيث الضواري آكلات لحوم البشر التي تسرح وتمرح.
وعلى ذلك، تضيع وتنزوي المسافة الآمنة التي يجب أن يعيش فيها الرأي حرًّا نظيفًا موحدًا، وعلى ذلك تبهتُ وتُسحق ملامح المقال الصادق النزيه الذي لا يكتب لإرضاء أحد، بل ليوقظ فكرة نضرة كانت في سبات عميق، أو ليفتح نقاشًا بنّاءً وهادفًا، وللناس فيه مغنمٌ.
وفي الحقل الإعلامي تحديدًا، تتجلى هذه المعضلة بوجهها كالح القسمات، عبوس السحنات، فالكاتب اليوم إما أن يكتب ما يُرضي التوجه العام وإن كان معتما، أو أن يختار الصمت، إذ لم يعد ثمة مكان آمن للرأي المختلف ليهنأ فيه تحت ظلال شجرة الخلد، ولم تعد هناك مساحة محمية (شبرية) للتأمل الحر. لقد باتت المقالة التي تحمل وجهة نظر مخالفة تُستقبل بالعداء السافر قبل أن تُقرأ، وتُتهم بالخروج عن الصف وعن الجماعة قبل أن تُناقَش.
لا أبالغ إن قلت إن كثيرًا من كتّاب الرأي يعيشون اليوم مأزقًا مزدوجًا، إما أن يُسايروا ما يُطلب منهم، أو يُقابَلوا بالتجاهل وربما بالتهجّم والتجهّم. وهكذا، تُدفع الأقلام الحرة إلى الهامش، ويُختزل دور الكاتب في تكرار ما يُقال بدلا من أن يُعيد صياغة ما يُفكَّر فيه.
إن أخطر ما في هذا المشهد ليس فقط إسكات الأصوات المختلفة، بل ترهيب الناس من مجرد التعبير، فأمسى البعض يخشى أن يقول رأيًا حُرًّا صريحًا في جريدة أو على منصة افتراضية، ليس لأنه لا يملك المعلومة، بل لأنه يدرك أن كل ما سيقوله قد يُحمَل على محمل العداء، وكأننا أمام معادلة خطيرة: إن لم تؤيّد فأنت تخون، وإن لم تطبّل فأنت تتآمر.
وهكذا يتراجع الحوار المجتمعي أمام ضغط المواقف المعلبة الجاهزة، ويضعف أمام سطوة التصنيف المسبق غير القابل للاختراق، فلا مناقشات هادئة، ولا جدالات تفاعلية بنّاءة، بل خطوط دموية حمراء تُرسم على عجل، وحدود وهمية تُفرض بين المختلفين عنوة، حتى صار الجميع يختبئ خلف "الأمن" الذاتي ويهرب من "الحق" الأبلج.
فهذه الحالة المتزايدة من الانكماش الفكري، والإحجام عن طرح الرأي المخالف، أدت إلى تراجع الحوار المجتمعي، وتآكل روح النقاش البنّاء والحوار الجميل – كما ينبغي أن يكون – إذ لم يعد قائمًا على احترام الرأي والرأي الآخر، بل صار معركة انتصار وإقصاء مكشوفة، فإن لم تكن معي خطوة بخطوة، فأنت في معسكر مضادّ حتى لو جمعتنا ذات الأهداف.
وهذا المأزق لا يخص الكتّاب وحدهم، بل يعبّر عن أزمة أعمق: أزمة في تعريف ماهية ثقافة الاختلاف، فالمجتمع – شيئًا فشيئًا – لم يعد يحتمل من يعارضه أو يختلف عنه ومعه، حتى في أبسط الآراء التي باتت تُواجَه بالتشكيك أو التجريم أو العداء الصريح للأسف، وكثير من الناس لم يعودوا يرغبون في التعبير عن آرائهم إذا كانت تخالف السائد، لا لأنهم عاجزون عن إبداء الرأي، بل لأنهم باتوا يخشون العواقب غير العقلانية التي قد ترتد عليهم وبالًا مثل ريح صرصر عاتية.
فالإعلام الذي وُلد ليكون صوتًا حُرًّا، يُختزل الآن تدريجيًّا في صدى واحد، قادر على إسكات الآخر عنتريًّا، ونُشاهد تقارير محسوبة، ومقالات متشابهة، وتحليلات مكرّرة في مشهد يعكس أزمة أعمق: أزمة تنوع حقيقية، مع إيماننا القوي بأن لا صحافة بلا تعدّد للآراء، ولا فكر بلا اختلاف، ولا مجتمع بلا فسحة للاعتراض البنّاء.
لا بدّ أن نسأل أنفسنا ما القيمة الحقيقية لإعلام أو رأي لا يحتمل صوتًا آخر؟، وهل يمكن أن نتطوّر ونحن نحاسب الناس على أفكارهم لا على أفعالهم ؟، رغم أن الله العادل لم يفعل ذلك.
لعل الإجابة تكمن في الاعتراف بأن "من ليس معي" قد يكون ببساطة... يراني من زاوية مختلفة خاصة به وحده وهذا حقّه، لا أكثر ولا أقل.
والاختلاف ليس خصومة، وليس حربًا، بل فرصة لاستنطاق الذات الأخرى، وأن من يكتب عكس السائد لا يهدم، بل يضيء مسارات كانت معتمة ومظلمة.
فالإعلام الذي يُفترض أن تكون له الغلبة والسيادة والريادة، هو في حقيقته مساحة للنقاش الحرّ والتعددية المسؤولة، لكنه تردّى الآن فإذا هو في بعض حالاته خاضع لهذه الثنائية القاتلة، ونجد أن التقارير تكتب بانتقائية، والمقالات تُنشر بموازين مزاجية، والأصوات المختلفة تُقابل إما بالتجاهل أو بالتقزيم أو بالتجريم، حتى أصبح الكاتب الحرّ نادرًا، والمحتوى الجريء مغامرة غير محسوبة العواقب، أما الحوار المتزن فقد غدا سلعةً نادرة في أسواق النخاسة الفكرية الجديدة.
بالطبع إن منطق "من ليس معي فهو ضدي" إذا استشرى في المجتمع والإعلام، فإنه لا يخلق قوة، بل يصنع هشاشة ثقافيّة ضحلة، وتكلّسًا في العقل، وضمورًا في العضلات، ويقود إلى أحادية مدمّرة تُفرغ الساحة من التنوع الذي هو أساس كل تطور وكل جديد.
نحن بحاجة اليوم إلى أن نعيد الاعتبار لفكرة بسيطة وعميقة تتمثل في أن الاختلاف لا يعني العداء بأي حال من الأحوال، وأنّ من يكتب رأيًا مخالفًا لا يسعى لخصومة أو لاستعداء أحد، بل ليفتح آفاقًا أرحب للعقل ليتدبّر حتى في ملكوت السماوات والأرض، فالرأي الذي لا يخالفك لا يضيف إليك، والذي يخالفك لا يسيء إليك، والصحافة التي لا تتعدد مشاربها لا تستحق اسمها، والمجتمع الذي لا يتحاور بحبّ ومودّة يتهالك بصمت فيهرم ثم يموت.
نأمل أن تتبدل المفاهيم البالية والأفكار التقليدية في التعاطي مع الغير والتي ما برحت تنظر بعين واحدة، وتسمع بأذن واحدة، وترى الأشياء إما بيضاء وإما سوداء، ومن ثم عليها تقبل الآراء على اختلافها وعدم مصادرتها فقط لكونها لا تتوافق مع ما تراه، وما تراه ليس مقدّسًا بطبيعة الحال.