يُعد التعميم الذي صدر عن الأمانة العامة لمجلس الوزراء بشأن الإلتزام باستخدام اللغة العربية السليمة في كافة المكاتبات والتعاملات الرسمية ، من القرارات الوطنية التي طال انتظارها ، لا لشيء ، سوى أننا أصبحنا نرى – وبكل أسف – لغتنا العربية الجميلة لغة القرآن الكريم تتراجع في عقر دارها ، ويتم استبدالها جهارا نهارا بلغات أجنبية في الشارع ، وفي المؤسسات ، وحتى في المراسلات اليومية.
فهذا التعميم يعيد الإعتبار للغتنا الأم ، ويضعها في المكان اللائق بها فخرا بها ، ويضع حدًا للتراخي الذي اتسعت رقعته حتى غدت اللغة العربية بكل تاريخها التليد ، وبكل إرثها الثقافي والحضاري المجيد مغيبة في كثير من المجالات ، وهو ما يمثل تهديدًا حقيقيًا لمكانتها السامية في نفوسنا بادئ الرأي ، ثم للهوية الوطنية بعد ذلك ، إذ لا يمكن لأمة أن تحافظ على تماسكها الثقافي والحضاري إذا تخلت عن لغتها ، وما حدث ويحدث لم تفعله دول أخرى تقدمت في ركاب العلم والتقدم والرقي عبر الإرتكاز للغتها الأم ولنا في التجربة الروسية والصينية والكورية واليابانية أسوة حسنة . الامر الذي يبعث على الاعتزاز بهذا التوجه الحميد و الرؤية الواضحة في خضم ما يشهده العالم من عولمة .
وجاء التعميم واضحًا وحازمًا في مضمونه ، إذ ألزم الجهات الحكومية والخاصة بتسمية المشاريع والمنشآت العامة بلغة عربية سليمة وذلك بعد ما إنتشرت كالنار في الهشيم الأسماء الأجنبية للمحلات التجارية بإعتبارها الأكثر جاذبية والقادرة دون غيرها من أسماء عربية على جذب الأنظار ومن ثم تهفو لها القلوب والنفوس لروعتها ورونقها وجميل نطقها كعلكة مخضبة بشهد لاينفد من الألسن وإذ هي تلوك الإسم الأجنبي بهي الطلعة بديع المحيا والقسمات ، لنتجول في أسواقنا وفي كل الولايات ونعيد التمعن في أسماء المحلات التجارية سنجد بأن أغلبها أسماء أجنبية ، وأن اللغة العربية غائبة تماما في تلك اللوحات ، حتى يخيل للمرء إنه يتجول في لندن أو باريس أو واشنطن ، لهذا الحد وصل بنا الإنحدار في بخس لغتنا وإبعادها مع سبق الإصرار والترصد من حياتنا ومن مجتمعاتنا .
فالتعميم ر حض على إمكانية إيراد الاسم الأجنبي بين قوسين إن دعت الضرورة على أن يبقى الإسم العربي سيد الموقف وأمير الساحة وسيدها ، وأكد على أن جميع الأعمال والمراسلات والمستندات يجب أن تكون باللغة العربية ، ولا تُرفق ترجمة إلا إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك وفي اضيق الحدود الممكنة ، هذه ليست مجرد تفاصيل إجرائية ، بل رسائل واضحة بأن للغة العربية مكانتها المهيبة ، وأن الحفاظ عليها لا يتم بالنيات الحسنة فقط ، بل بالإجراءات الواضحة والحاسمة والملزمة .
ومن المهم الإشادة أيضًا بما ورد في التعميم من مرونة مدروسة ، إذ أتاح استثناء بعض المجالات التخصصية كالقطاع الطبي والتعليم العالي ، شريطة أن تبقى اللغة العربية هي الأصل ، وإلى أن يتم تعريب المناهج الدراسية في الجامعات والكليات والمعاهد التي ما إنفكت تدرس بلغات أجنبية خضوعا للكذبة التي اشرنا إليها والقائلة بأن اللغة العربية ليست لغة (علوم) بل لغة شعر وأدب (وقلة أدب) وبلاغة وفصاحة ، لقد آن الأوان لسحق هذه الأفكار البالية وإقتلاعها من جذورها الضاربة خداعا في تربة الوطن .
في الواقع إن الإنفتاح على العالم لا يعني التفريط في الذات وفي الإرث الثقافي والحضاري للأمة ، فالصين وروسيا وكوريا واليابان منفتحون على العالم ولكن بلغاتهم الأم فلا ضرر ولا ضرار في هذه النقطة الجوهرية ، عليه فإن التخصص لا يجب أن يكون بوابة لتهميش لغتنا العظيمة .
وبناء لهذا التوجه الحميد والمحمود النظر في إمكانية إلزام شركات القطاع الخاص – من بنوك واتصالات ومياه وكهرباء وغيرها – بإستخدام اللغة العربية في عقودها مثل القروض و التامين والتمويل الموجهة للجمهور ، وهي خطوة مكملة للقرار وضرورية ، إذ لا يُعقل أن تخاطب مؤسساتٌ تعمل في وطن عربي جمهورها بلغة أجنبية لا يفهمها أغلبهم !.
نأمل وبصدق أن تسهم هذه الخطوة في إعادة الإعتبار كاملا غير منقوص للغة العربية ، وأن نحض جميع المؤسسات على مراجعة سياساتها اللغوية ، لأن ما لا يُستخدم يندثر ، وإن لم ننهض بلغتنا اليوم فمتى سيتم هذه النهوض ؟ ، فاللغة ليست مجرد كلمات ، بل هي سيادة وهوية وانتماء ، وحين نحافظ عليها ، فإنما نحافظ على وطنٍ بأكمله ، وعلى أمة عربية مجيدة ..