في عام 2018، أُتيحت لي الفرصة العمل على أحد أجنحة "متحف عُمان عبر الزمان"، حين كان المشروع في مراحل تصميم المحتوى. كان الجناح مخصصا لعلاقات عُمان مع العالم الخارجي، واستعنت بخلاصات ومخرجات ما تعلمته في بحث الماجستير حول السياسة الخارجية العُمانية، بالإضافة إلى تجربتي السابقة في إلقاء محاضرات حول هذا الموضوع بإحدى الجامعات. بدأتُ المهمة بوصفها مراجعة قصيرة المدى للملفات المتعلقة بالجناح، وتدريجيا تحوّلت إلى مشروع طويل الأمد، تطور عبر السنوات إلى صياغة شاملة لمحتوى الجناح.
خلال هذه التجربة، ارتديت مجددا قبعة الباحثة وغصت في بحر من المعلومات. تتبعت في مراحل التحضير مختلف صور الحضور العماني قديما وحديثا، وتوقفت عند زيارات السلطان قابوس – طيب الله ثراه – الرسمية إلى الخارج منذ توليه مقاليد الحكم، وزيارات رؤساء الدول إلى عُمان، وعرضت عضوية السلطنة في مختلف المؤسسات والمنظمات الإقليمية والدولية، وجمعت مع فريق المتحف كل التفاصيل التي يستلزم توفرها من أجل بناء وتصميم محتوى يعبّر عن هذا البعد. لكن ما تكشّف لي خلال هذه الرحلة البحثية كان لافتا: الحضور العُماني الخارجي في المجال الثقافي كان متجليا بوضوح.
من مركز السلطان قابوس للثقافة في العاصمة الأمريكية واشنطن، إلى "بيت الإسلام" في متحف الشرق للثقافة والأديان بهولندا – وهو نموذج لقرية عُمانية تقليدية يعكس ملامح الهوية والبيئة العُمانية – إلى مكتبة أبي الريحان البيروني في أوزبكستان، التي ساهمت السلطنة في إنشائها ودعم محتواها المعرفي، يتضح أن عُمان تترك أثرا عميقا في العالم من خلال مجالها الإنساني: الثقافة.
عُمان، التي كانت ذات يوم إمبراطورية تجارية عابرة للمحيطات، توظف اليوم هذا الإرث بروح جديدة، تنبع من واقعها الحالي، وتُعبّر عن قيمها الرئيسة التي تؤكد على التعايش، والاحترام، والتواصل الإنساني.
في عالم اليوم، تُدرك عُمان ما يمكنها تقديمه بصورة عملية، مع الأخذ في عين الاعتبار المعطيات الجيوسياسية والاقتصادية التي تعيشها البلد. ومن هذا المنطلق، وبحكمة وفهم عميقَين لدى السلطان قابوس – طيب الله ثراه – اختارت عُمان أن تصنع حضورا دوليا من خلال الحوار وبناء الجسور مع الآخرين. عند التأمل بعمق، ندرك أن الثقافة العُمانية تقوم على الانفتاح المدروس: تقبل الآخر، واحترامه، وتقدير التنوع الإنساني دون اشتراط التماثل أو الاتفاق. وهذه القيم ليست اجتماعية فقط، بل هي حجر الأساس في السياسة الخارجية العُمانية التي بُنيت على الحوار، والتوازن، والاحترام المتبادل.
وإذا أردنا الحديث عن قوة الثقافة وكيف يمكن لدولة أن توظفها كقوة ناعمة للخير، فلا نحتاج إلى أن ننظر بعيدا، بل يكفينا أن ننظر إلى الداخل. لقد نجحت عُمان في تقديم نموذج فريد، إذ حوّلت مفهوم القوة البحرية من أداة صلبة للدفاع، إلى وسيلة لزرع بذور السلام وتعزيز الحوار الثقافي بين الشعوب من خلال مشروع سفينة شباب عُمان – الذي تم إدراجه ضمن قائمة أفضل الممارسات لصون التراث الثقافي غير المادي من قبل منظمة اليونسكو – فلم تكتفِ الدولة بتكريم إرثها البحري، بل أطلقت مبادرة نبيلة تتجاوز رمزية البحر، لتغدو دبلوماسية ثقافية متحركة. إنها ليست قوة دفاعية جامدة، بل قوة خير متدفقة تحمل رسائل الانفتاح والتسامح وتبني جسور التواصل أينما رست.
وكذلك من النماذج البارزة التي تجسّد هذا التوجّه معرض "رسالة الإسلام من عُمان"، وهو معرض متنقّل أطلقته وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، بهدف تقديم منظور عماني لقيم التسامح والتفاهم والتعايش السلمي التي تمثل جوهر الإسلام. ومنذ انطلاقه، جاب المعرض أكثر من 130 وجهة في 39 دولة. ويضم المعرض مواد تعريفية ومخطوطات وأعمالا فنية، في إطار مبادرة أوسع تحمل عنوان "التسامح، التفاهم، التعايش – رسالة الإسلام من عُمان"، بهدف "تعزيز الحوار بين الأديان، مع التركيز بشكل خاص على التسامح الديني والتفاهم المشترك والتعايش السلمي".
وفي ظل ما نشهده اليوم من توجه متزايد في دول المنطقة نحو الاستثمار في القطاع الثقافي كجزء من رؤاها الاستراتيجية، تتضح أهمية الثقافة بوصفها ركيزة أساسية من ركائز التنمية والعلاقات الدولية. هذا الاهتمام المتنامي يؤكد أن الثقافة لم تعد هامشا نخبويا، بل عنصرا محوريا في بناء المكانة، وتعزيز التفاهم، وترسيم تقاسيم وتفاصيل هوية الوطن دوليا. وفي السياق العُماني، جاءت هذه الرؤية من وعي مبكر وعميق لدى السلطان قابوس – طيب الله ثراه – بأهمية الثقافة كخيار استراتيجي يتجذّر في مسيرة الدولة السياسية وفي أفق الإنسانية الشاسع والرحب. وقد واصل هذا الإدراك مسيرته في عهد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق – حفظه الله ورعاه – الذي شغل لسنوات منصب وزير التراث والثقافة، وكان شاهدا ومسهما في هذا التوجّه الثقافي، مما يعكس أن الثقافة في عُمان ليست مجرد قطاع، بل مسؤولية وطنية وإنسانية تُحمَل بثقة ورؤية.
والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا:
هل نحن واعون فعلاً بأننا روّاد في هذا المجال؟
وهل نستثمر هذا التفرّد بما يليق به، في وقت بات فيه العالم في أمسّ الحاجة لصوت متزن وإنساني؟
في هذا الزمن المتسارع، قد يكون من المهم أن نلتفت إلى ما نملكه بالفعل من رأس مال ثقافي ومعرفي وحضاري وبشري. ولعل الوقت قد حان لأن تأخذ هذه الأساليب موقعها الطبيعي في الحضور العالمي ليس بوصفها نموذجا يجب أن يُتبع، بل بوصفها مساهمة ممكنة في عالم يبحث عن التوازن والمعنى في وسط الصراعات والمعلومات المضللة.
ولذلك، يمكن القول إن عُمان، خلال السنوات الماضية، شهدت نقلة نوعية في القطاع الثقافي، من خلال مشاريع محلية ودولية تُعطي الشباب العُماني المساحة للإبداع والثقة للمساهمة في مبادرات كبرى، سواء تلك التي أنجزت، أو الجاري تنفيذها، أو التي نطمح لها مستقبلا. هذا الوعي بدور الثقافة، هو ما شكّل الأساس الذي انطلقت منه مبادرة "المختبرات الثقافية العُمانية"، وهي مبادرة ذات طابع خارجي، تهدف إلى بناء شراكات فاعلة مع المؤسسات الأكاديمية والثقافية الدولية، من أجل إنشاء وتطوير برامج ومبادرات وأنشطة تعزز التبادل الثقافي والتعاون الإبداعي المشترك. كما تعمل هذه المختبرات كمنصة لتبادل المعرفة والخبرات بين عُمان والعالم. وقد تأسست المبادرة بالتعاون بين وزارة الثقافة والرياضة والشباب، ومؤسسة بيت الزبير، والنادي الثقافي، وذلك بناءً على قرار وزاري من صاحب السمو السيد ذي يزن بن هيثم آل سعيد، وزير الثقافة والرياضة والشباب، تأكيدا على أهمية دعم الفعل الثقافي وتمكينه من الوصول إلى آفاق أوسع.
لقد انطلقت هذه المبادرات، وسيأتي غيرها كذلك، من وعي عميق بأن لدينا محتوى ثقافيا أصيلا، وغنيا، وعالميا في قيمته. لم نعد نكتفي بأن ننتظر أن يُفهم هذا المحتوى عن بعد، بل علينا أن نواصل استحداث الأدوات والمشاريع القادرة على وضع هذا المحتوى في روح هذا العالم الذي نعيشه، لأننا نؤمن أننا جزءٌ حيّ وفاعل فيه. ننطلق بثقة ومن إيمان حقيقي بأن لدينا ما يمكن أن يُسهم، ويُلهم، ويُضيف خيرا حقيقيا لهذا العالم.