عندما تستوعب ألمانيا اللاجئين

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٩/مايو/٢٠١٦ ٠٣:١٩ ص
عندما تستوعب ألمانيا اللاجئين

كمال درويش

طبقا لإستطلاع للرأي نشر في أوائل مايو من قبل أ ر دي دويتشلاند تريند فإن الدعم الشعبي لحزب البديل من أجل ألمانيا (أقصى اليمين) يصل الآن لنسبة 15% من حوالي 5% قبل سنة فهل يمكننا أن نوقف هذا التوجه الخطير ؟
لقد كان صعود حزب البديل من أجل ألمانيا منذ الصيف الفائت نتيجة مباشرة لتزايد أعداد اللاجئين- حوالي مليون شخص سنة 2015- الذين دخلوا ألمانيا كما جعل الحزب معارضته لإدخال اللاجئين محور برنامجه والذي تضمن أيضا توجها عدائيا ضد الإتحاد الأوروبي وبرنامج إجتماعي محافظ للغاية أضيف إليه بعد ديني طائفي علني في مؤتمر الحزب بتاريخ 3 مايو في شتوتجارت .
لكن ما يزال الوسط السياسي العريض في ألمانيا يحتفظ بمكانته فما يزال الحزب المسيحي الديمقراطي الذي ينتمي ليمين الوسط وحلفاءه يتمتعون بدعم 33% من الناخبين والحزب الإشتراكي الديمقراطي من يسار الوسط ما يزال يتمتع بدعم 20% من الناخبين كما دعم 13% من الناخبين حزب الخضر وحتى حزب الديمقراطيين الأحرار تمكن من إستعادة مكانته بعد الأوقات الصعبة التي مر بها حيث يتمتع الآن بدعم حوالي 6% من الناخبين .
بإختصار ما تزال القوى السياسية المعتدلة تتمتع بدعم أكثر من 70% من الألمان مقارنة بدول أخرى مثل النمسا حيث حصل أقصى اليمين على دعم 36% من الناخبين في الجولة الأولى من الإنتخابات الرئاسية وحتى حزب اليسار الألماني والذي يتمتع بدعم 8% من الناخبين ولا يصنف تقليديا كحزب معتدل لديه جناح "شرقي" أكثر إعتدالا وجناح "غربي" أكثر تطرفا.
إن القوة المستمرة للوسط السياسي في ألمانيا ربما تعكس النجاح الإقتصادي الرائع للبلاد والذي تمكنت من إستدامته لإكثر من عقد وحتى عندما واجهت معظم بقية دول أوروبا تحديات خطرة. يعود الفضل في ذلك إلى حد ما لليورو والذي أفاد الصادرات الألمانية والنمو أكثر بكثير من ما يدركه معظم مواطنيه. لو كانت ألمانيا ما يزال لديها المارك الألماني – أو عادت إليه – فإن تلك العملة الأقوى بكثير كانت ستعيق التوظيف والنمو وذلك نظرا لقيمة المارك مقارنة بالعملات الأخرى في أعقاب أزمة إقتصادية عالمية .
إن الأهم من ذلك هو أن ألمانيا قد إستفادت من ثقافة الإجماع الإستثنائية والتي طورتها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث أظهر الشركاء الإجتماعيون والأحزاب السياسية قدرة رائعة على إيجاد حلول وسط . إن توزع النشاط الإقتصادي على مساحة واسعة إلى حد ما مع وجود الحكومات المحلية القوية ومنظمات المجتمع المدني قد ساهم بشكل كبير في الشعور العام بالرضا وهو شعور يغيب عن أجزاء كبيرة من العالم هذه الإيام.
لكن الآن وبينما تشعل أزمة اللاجئين الشعبوية والإستقطاب السياسي فإنه يبدو أن أسس نجاح ألمانيا مهددة ففي واقع الأمر يمكن أن يتشكل مستقبل ألمانيا بطريقتين والعالم لديه مصلحة كبيرة في أن ينجح سيناريو معين .
إن السيناريو الأول قاتم : فشل ألمانيا في دمع اللاجئين إجتماعيا وإقتصاديا مما يزيد من تصاعد السخط السياسي ويصبح القادمون الجدد محبطين بسبب المصاعب التي يعانون منها وأية خطوات قد يتخذونها من أجل التنفيس عن إحباطهم قد تعزز من موقف الشعبويين اليمينيين وقد تؤدي للعنف من الجانبين .
لو في أسوأ الحالات وقع هجوم إرهابي- خاصة واحدا يمكن ربطه باللاجئين بطريقة ما – فإن ردة الفعل الشعبوية القومية ستكون قوية وقد تضعف النسيج الذي يقوم عليه المجتمع الألماني . إن العناصر المعادية للإسلام ضمن ردة الفعل تلك سيتم إستغلالها من قبل المتطرفين الدينيين في الشرق الأوسط لإن تلك العناصر المعادية للإسلام ستؤكد خطابهم عن حتمية الصراع الديني والحضاري.
إن السيناريو الثاني يحول تحدي اللاجئين لقصة نجاح أخرى حيث يمضي دمج اللاجئين قدما بشكل سريع وتستأنف ألمانيا مسيرتها تجاه السياسة المعتدلة والتضامن الإجتماعي والنمو الإقتصادي وعلى المدى الطويل يمكن للاجئين أن يقدموا مساهمة قوية في الإزدهار الألماني .
على الرغم من صعود نجم حزب البديل من أجل ألمانيا فإن هناك الكثير من الإسباب تجعلنا متفائلين ففي أواخر العالم الفائت تجمع الاف الألمان في محطات القطار وفي الشوارع للترحيب بالمجموعات الأولى من اللاجئين عند وصولهم وفي معظم أرجاء البلاد حشدت المجتمعات المحلية طاقاتها من إجل توفير السكن وتدريب اللغة والإرشاد الإجتماعي للاجئين والذين لم يشهدوا من قبل مجتمع ديمقراطي غني . إن هناك عشرات الآلآف من الطلاب المراهقين الذين يعملون "كشركاء مساعدين " لزملائهم في الصف من اللاجئين الذين لا يتحدثون الألمانية والعديد منهم وصل لإلمانيا بدون آبائهم .
إن إستمرار تلك المقاربة ونجاحها في تحقيق الدمج الناجح سيعتمد على الألمان واللاجئين . سيتوجب على اللاجئين قبول حكم القانون الألماني وحتى لو في بعض الأحيان لم يكن هذا القانون منطقيا بالنسبة لهم كما يتوجب على القادمين الجدد والسكان الألمان تحقيق التوازن بين الإحترام لتنوع أساليب الحياة مع الإدراك بإنه في مجتمع علماني فإن القوانين نفسها تنطبق على الجميع .
يتوجب على تلك القوانين حماية الحرية الدينية والثقافية للجميع بدون السماح بإستخدام تلك الحرية كذريعة للتعدي على الحقوق الإنسانية والديمقراطية الأساسية لكل شخص . إن الجالية الحالية الضخمة من المهاجرين السابقين يمكن أن تلعب دورا مساعدا في تفسير وتطبيق ذلك التوازن الدقيق على الرغم من كونه ينطوي على عيوب في بعض الأحيان.
إن الدمج الناجح للاجئين سيعتمد كذلك على النمو الإقتصادي وفي واقع الأمر فإن هذا يعطي سببا آخر لإلمانيا لإستخدام قدرتها المالية على زيادة الإستثمار وتطبيق سياسات تعزز النمو.
بينما سيجلب التدفق الديمغرافي فائدة صافية كبيرة لإلمانيا على المدى الطويل فإنه ما يزال عبئا على المدى القصير ولهذا السبب هناك حاجة كذلك للمساعدة في تحمل العبء من قبل الدول الأوروبية بالإضافة الى وجود جهود لتحقيق تباطؤ ملحوظ في تدفق اللاجئين بينما نحافظ على حقوق الإنسان لإولئك الذين يهربون من الصراع والموت.
لو إستطاعت ألمانيا دمج اللاجئين فإنها سترسل بذلك رسالة قوية للمتشككين السلبيين والمتطرفين في كل مكان حيث ستظهر تلك الرسالة للجميع بإنه بوجود إقتصاد قوي ومجتمع مدني نشط بالإضافة إلى حكم القانون العلماني فإنه يمكن التغلب على الإختلافات الدينية والتوترات الثقافية وتحديات سوق العمل. إن هذه رسالة يحتاجها العالم الآن أكثر من أي وقت مضى.

وزير سابق للشؤون الإقتصادية في تركيا