في إحدى الصلوات بالمسجد صلّى بجانبي شابٌّ مصابٌ بزكام محتدم وكان يعطس عطسًا مستمرًّا، ومع كل عطسة ينثر ما لا يُرى بالعين المجرّدة وتلتقطه الصدور في شهيقها وزفيرها في إطار سعيها الطبيعي لاستنشاق الأوكسجين وإعادة ثاني أكسيد الكربون، ولكن في مثل هذا الحال فإن الأوكسجين الملتقط والعائد للصدور لن يكون نقيًّا وصحيًّا قطعًا لأن الفيروسات المنطلقة من صاحبنا المزكوم قد اندسّت فيه لتمارس لعبة الانتشار والتحوّل وهي اللعبة الأثيرة لديها في مثل هذه التجمّعات المباركة.
وعلى إثر ذلك ساد المسجد قلق مقترن بحتمية الحفاظ على الخشوع واجب الاتباع في كل صلاة، بيد أن في القلوب خوفًا متأصّلًا من أيام كورونا سيئة الصيت والذكر، وهذا المريض قد تسبب في إرباك المصلين، ولا ندري إن كان على علم بذلك أم لا، فمع كل عطسة جديدة يزداد التوتر ويحاول بعض المصلين كتم أنفاسهم لمنع ذلك الذي لا يُرى من التسلل إلى صدورهم ليستكين فيها برهة ثم ينهض بعد أن يستريح ليمارس عذاباته وليتحول بريءٌ جديد إلى مصاب مؤهّل لنقل العدوى لآخرين.
سألتُ نفسي سؤالًا مشروعًا وبريئًا في آن معًا لماذا يأتي شخص مصاب بالزكام أو بغيره إلى المسجد وهو يعلم أن هذا الداء ينشط وسط التجمعات البشرية، يا ترى ماذا يقصد وإلى ماذا يرمي؟، هل يعتقد جهلًا بأن عطسه لن يبارح محيط رأسه وبالتالي فهو بريء من تهمة نقل العدوى عمدًا لآخرين، أم أنه يرى أن فيروس العدوى لا يعمل بكفاءة احترامًا وتقديرًا وتوقيرًا لبيوت الله، ليتني أعلم خياراته التي أتت به للمسجد ليصلّي وليبتغي مرضاة الله عز وجل وهو قد تسبب في أذى عباد الله، ما من شك أن لديه قناعة ما قادته للمسجد وهو يعلم بأنه مريض مرضًا مُعديًا، وما نحن على ثقة منه هو أن هذه القناعة خاطئة وكاذبة وفق كل التفاسير الشرعية التي فصّلها فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة عندما قال: "لو ناقشنا الزكام أو الانفلونزا من الناحية الشرعية، لوجدنا أنها تكفي أن تعدّ عذرًا للمتخلّف عن صلاة الجماعة في المسجد، ولو لم يُرد الرجل أن يتخلف إلا أنه أجبر على ترك الجماعة طوال أيام مرضه بالزكام".
وإذا كان الأمر ومن الناحية الشرعية كما تفضّل به الشيخ الدكتور كهلان فإنه يتطلب الاستمرار في اتباع الإجراءات التي تمنع المريض من دخول المساجد ويقيم الصلاة في بيته، فالوقاية خير من العلاج كما نعلم، والمولى عز وجل وضح ذلك في محكم كتابه في الآية رقم 286 من سورة البقرة حينما قال: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) صدق الله العظيم.
فالدين الإسلامي منح العذر للمريض والمسافر تخفيفًا وتسهيلًا لقوله تعالى في الآية 78 من سورة الحج (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وهي منحة صريحة في إطار من التيسير وعدم المشقة والعنت، خاصة إزاء الأمراض التي تسبّب العدوى للآخرين، وهناك تأكيد صريح آخر على التسهيل والتيسير في سورة النساء عندما قال سبحانه وتعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) .. صدق الله العظيم.
فالدين الإسلامي يحرص على سلامة المجتمع وعلى إقامة حوائط الوقاية عالية وشاهقة وهذا ما أكد عليه حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إذا سمعتم به (أي الطاعون) حلّ بأرض فلا تقدموا عليها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه" رواه البخاري ومسلم، هذا الحديث يؤكد على أن الإسلام ومنذ أكثر من 1400 قد أقرّ قانون الحجر الصحي حفاظًا على سلامة الناس، ثم تبنّته الأمم الأخرى كمبدأ صحيح ووحيد لحماية البشر من الأمراض المعدية.
ونخلص من ذلك إلى أن الصلاة في المساجد واجبة على القادرين الأصحاء الذين لا يعانون من أمراض معدية تحديدًا، فليست كل الأمراض معدية كما نعرف، وبالتالي يحق لحملة الأمراض غير المعدية الصلاة في المساجد بغير حرج اللهم إلا إذا خرج المرض من حيز السكون إلى فضاء العدوى عندها فقط يتوقف المريض عن الذهاب للمسجد باعتبار أن لديه عذرا شرعيًّا وقتذاك.
وانطلاقًا من مبدأ الوقاية خير من العلاج وكجزء من الاحترازات واجبة الاتباع، على الجهات المعنية توجيه إدارات المساجد بوضع لافتات تشير إلى عدم السماح لحملة الأمراض المعدية من دخول المساجد لصلاة الجماعة والتوعية عبر المنشورات ووسائل التواصل الاجتماعي وعبر كل وسيلة متاحة لما لهذه الإجراءات من احتياطات ووقاية من انتشار الأمراض.
ونضيف هنا أنه من الأهمية بمكان توفير كمامات بالمساجد، ويتعين على كل من ينتابه إحساس ما يستدعي استخدامها فعليه فعل ذلك بلا تردد، وعندما يستشعر بأن الأمر أكبر من أن تحتمله الكمامة عليه التوقف عن ارتياد المسجد والصلاة في البيت حتى تعود عافيته التي تمكنه من دخول المسجد مجددا.
ولعل الإجراءات التي اتخذتها الحكومة أثناء مرض جائحة كورونا كانت فاعلة في المساجد سواء من خلال لبس الكمامات أو من خلال المباعدة بين المصلين ويمكن استلهام تلك التجربة المريرة في سن إجراءات واضحة تنص على عدم جواز حضور حملة الأمراض المعدية للمساجد إلا بعد إكمال علاجهم.
نأمل أن نكون أكثر وعيًا وإدراكًا إزاء هذه القضية التي قد يراها البعض لا تستحق نقاشًا، غير أن العكس هو الصحيح، والتجارب البشرية على مستوى كوكب الأرض تؤكد على هذه الحقيقة الجوهرية، فالمساجد مناراتٌ للعبادة والتآخي والتقرب إلى المولى عز وجل، ولا ينبغي أن نسمح بأن تكون مكانًا لتفشّي الأمراض وتبادل باقات الفيروسات بين المصلين الأوفياء لدينهم ولقرآنهم ولرسولهم صلى الله عليه وسلم.