طرائف الرشى والمرتشين

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٧/مايو/٢٠١٦ ٢٣:٤٦ م
طرائف الرشى والمرتشين

لميس ضيف

بعد حصولي على شهادة البكالوريوس بعامين قررت أن أدرس الماجستير في جامعة عريقة في دولة عربية شقيقة لن أسميها تلافيا للحساسيات و”الانهيارات العصبية”.

ولّيت وجهي شطر تلك الدولة وأقمت فيها 3 أشهر عداً ثم وضبت حقيبتي وتوجهت للمطار غير آسفة على ما أنفقته في محاولتي البائسة تلك من مال وجهد. فمنذ أن وطأت قدماي المطار وأنا مضطرة لدفع “أتاوات” و”رشاوى” للجاهل والمثقف، للميسور قبل الفقير.. فالدكتور في الجامعة يريد هاتفاً محمولاً من طراز حديث، ومسؤول الأمن يريد رسوم بطاقة الدخول وضعفيها له كي لا أنتظر أياماً من أجل ختم عابر، ومسؤولة التسجيل عذبة اللسان أُعجبت بخاتمي وطلبت “أخوه” هدية مني لأن عيد ميلادها قريب.

في وزارة الصحة همس أحدهم لي طالبا “حلاوة” فاستغربت وتعذرت لكوني لا أحمل حلوى معي، فضحك من سذاجتي وعرك أصابعه ببعضها لأفهم بأنه يعني المال، فدفعت كي لا أنتظر في طابور لا يكفيه النهار!
اكتشفت بعد أقل من شهر أن الحصول على شهادة من هذه الجامعة “العريقة” يتطلب جيباً سخياً لا علماً ولا موهبة. ربما يكون الوضع مختلفاً مع أبناء البلد، لا ندري، ولكن الوافد لا سيما إن كان خليجياً يجب أن “يشتري” طريقه بماله. ولا يقتصر الأمر على الجامعة فحسب، بل يمتد لكل شبر في تلك الأرض. الطريف أني لما طلبت موعداً لمقابلة مسؤول رفيع في هيئة دولية كان من المفترض أن أعمل لديها خلال دراستي، طلب مني مدير مكتبه – بوضوح ودون خجل أو تمويه – أن أدفع له مقابل ترتيب موعد عاجل، فلما تمردت - لأني ببساطة سئمت أسلوبهم الفج - لم أحصل على الموعد!
كل الدول العربية تعاني من هذا السرطان. تختلف مرحلته من دولة لأخرى، لكن الكل مبتلى به بدرجة ما. وإن كنتم تظنون أن سطوة الرشى وثقافة “الارتشاء” حكر على دولنا المنكوبة بكل ويلات العالم فأنتم مخطئون.. فعلى ذمة الأخت كريستين لاغارد، مديرة صندوق النقد الدولي، فإن القطاع العام العالمي يتكبد خسائر تبلغ تريليوني دولار سنوياً في صورة رشى. وللمعترين مثلي الذين يصيبهم عسرٌ في هضم الأرقام الكبيرة أقول إن التيريليون يساوي ألف بليون.. وهو مبلغ “يسد عين الشمس” ويتعدى ميزانيات دول بمراحل.
ويصر صندوق النقد الدولي أن التكلفة غير المباشرة للرشاوى أكبر من هذا الرقم بكثير. فهي تضعف نمو الاقتصاد، وتقلص الإيرادات الضريبية، وتستنزف الدولة وتضيع المعايير الأخلاقية.

إننا نتحدث عن ظاهرة تحولت في كثير من الدول لواقع. ومحاربتها لن تكون عن طريق التنظير ولا حتى الرقابة والملاحقة القضائية بل يمكن تذويبها ببساطة بوسيلتين:

رفع رواتب الموظفين الحكوميين لتكفيهم هم المعيشة فلا يفتحون أيديهم لطلب المال من المراجعين أو “ابتزازهم”.

أما الطريقة الأهم والأسهل فتتمثل في تسهيل الإجراءات الحكومية، ورفع العقبات من دروب المراجعين، وتوضيح الإطار القانوني لكل معاملة لمنع “الاجتهاد” وتقليص صلاحيات الموظفين لتكون إجرائية لا تقريرية. ولو حصل ودخلنا عصر المعاملات الإلكترونية مثل الدول المتقدمة فسنتحرر – لا من تغول الرشى فحسب – بل من ويلات أخرى لا تعد ولا تُحصر.