بعيدا عن أزواجهن ، بعيدا عن الوطن ، وبعيدا عن رمز تكاتف العائلة الذي يميز الغزاويين بعيدا عن كل هذا تجاهد الغزاويات على جبهة المهجر للتشبث بالحياة أملا في مستقبل مؤقت إلى أن تُحسم نتائج الحرب وأخريات مستقرات بالمهجر قبل أحداث السابع من أكتوبر ببضعة سنوات طمعا في آفاق جديدة تحتضن طموح جامح تحول إلى صراع مع إرتفاع سعر تحويل الأموال إلى غزة فكلما طالت مدة حرب طوفان الأقصى كلما زاد جشع تجار الحروب.
كانت غصة المرارة لصيقة لأسراء أبو نعيم عندما وصلت لإحدى الدول العربية ورأت أن الحياة مستمرة في تفاصيلها العادية .. الشوارع والسيارات وإشارات المرور، حمراء ، صفراء ، خضراء ، لينطلق الناس في أعمالهم مع نقيض قاسا ( لبروفة ) أهوال يوم القيامة في غزة.
( بروفة )هكذا كان مصطلح والدتها وقت النزوح ومحاصرة الصهاينة لمنزلهم بغزة ، تقتبسه إسراء هنا لوصف شعورها لحظة وصولها لأرض المهجر مع أولادها الثلاثة.
في المهجر يلوم بعض الأزواج الفلسلطنيين زوجاتهن على الفرار بالأطفال عبر معبر رفع قبل إغلاقه بالرغم من تشجعيهم لهن في بداية الحرب على ذلك، ليبقى الرجال مقاومين على أرض الوطن وتنجو النساء بأولادهن في بقاع الأرض وعند الإستقرار الموهوم- حسب مصطلحات المُهاجرات- يبدأ اللوم تحت وطأة ضغط النزوح بغزة تلو الأخر والجوع والقتل والتعنيف والترهيب للمدنيين العزل.
صديقة إسراء بالمهجر لا تحب أن نذكر أسمها ، تتفهم هذا اللوم من زوجها ولكن من يتفهم حجم إغراءات الهجرة لأم غزاوية شابة يطالبها زوجها بالوفاء في صورة لوم ليبدأ أهلها المقيمين في أوروبا بعرض المساندة المشروطة بالطلاق من الزوج المقاوم المعتصم في أرضه المباركة وأن تسافر فورا لأوروبا للإقامة الدائمة وطي صفحة زوجها للأبد ولسان حالهم يقول ( نحبك وسننقذك ولكن بشروطنا).
الحب المشروط هي صفة سيئة في الأباء والأمهات بالعالم العربي والإسلامي وتكاد تكون صفة سائدة أساسها إبتزاز عاطفي مفاده التخلي عن قناعاتك لتحظى بدعمنا العائلي حتى وأنت وسط الحرب مابين حياة وموت .
ومع كل هذه الضغوطات تسرق هذه الغزاوية الشابة اللحظات لتحول ذلك إلى كوميديا سوداء عبر كونها الوحيدة القادرة على إبهاج و إضحاك المغتربات حينما يجتمعن كل أسبوع لشرب القهوة وتداول أخبار الحرب وصور جثث الأقارب مع رائحة الخبز الفلسطيني التي تحرص أم محمد على تحضيره لأولادها التسعة وبشكل يومي وهو مايسعد إسراء أبو نعيم لأنها جارتها وتحظى بكرم أم محمد كل صباح.
تعاني الأختين إسراء ورشا أبو نعيم من وجعين مختلفين للغربة فوجع إسراء هو الحفاظ على صحتها النفسية من جنون الفراغ فهي لا تعمل ولا يُكمل أولادها دراستهم وتوق شوقا لصباحاتها السابقة في غزة بقولها ( الصباح بالمهجر فقير لا حياة يملكها).
أما رشا التي تعمل في سلطنة عمان قبل إندلاع الحرب إستضافت أختها الكبرى إسراء لمدة شهر إنقاذا لصحتها النفسية لعلها تجد في صحبة أختها الوحيدة بعضا من السلوى لتجديد عزيمة النضال لديها والتفكير بصفاء لإيجاد بيئة جديدة للبقاء في أفضل السبل، هي ( إسراء) تفكر في الإستقرار بالسلطنة ولكنها تراه حل مؤقت وأن أجواء عُمان جعلتها تحلم بمستقبل ما لأطفالها بعدما فقدت حق الحلم بأعماقها ، برأيها الحل الجذري هو الإنتصار والرجوع للوطن ( فلسطين ).
فيما لا تزال البطلة رشا في مسقط تنضال على جبهة أخرى للإرتقاء في عملها لتعلو فوق صراع حمى سباق إرتفاع سعر التحويلات المالية الخانقة في غزة و التي ترسلها بشكل دوري لأفراد عائلتها الكبيرة المكونة من عائلتان لتعزيز صمودهم وسط ويلات الحرب .
نعم المرأة الفلسطينية صلبة من الخارج ولكنها كما يطلقن على أنفسهن بلهجتهن الغزاوية ( نحن غلابه) بمعنى رقيقات القلب، هن بالفعل قارورات لم يخلقن للحزن القاهر فرفقا بقوارير المهجر.
الكاتبة العمانية : نبيلة دشيشة
الإيميل : nabila.dashisha@gmail.com