التكنولوجيا السحابية في قطاع التعليم العالي: ثورة تعليمية جديدة لمواكبة العصر الرقمي
يشهد قطاع التعليم العالي ثورة تكنولوجية تتكشف معالمها شيئاً فشيئاً. فالتقنيات السحابية، التي كانت يوماً ما حكراً على عمالقة التكنولوجيا والشركات الكبرى، تعمل اليوم على إرساء أسس جديدة للعملية التعليمية وطرق البحث في الجامعات في جميع أنحاء بلدنا. وتتشكل مع هذا التحول الرقمي منظومة تعليمية جديدة كلياً.
تقوم الحوسبة السحابية في جوهرها على تنفيذ مهمة بسيطة لكنها مؤثرة في الوقت ذاته؛ وهي القدرة على الوصول إلى موارد حاسوبية هائلة وتخزين البيانات في أي مكان وفي أي وقت. وفي سياق التعليم العالي، تشكل الحوسبة السحابية حافزاً للابتكار، وجسراً يتجاوز الحدود الجغرافية والتخصصية، بالإضافة إلى كونها قوة ديمقراطية تجعل التعليم ذو المستوى العالمي في متناول الجميع أكثر من أي وقت مضى.
واليوم، بات من الضروري إعادة التفكير في قاعات المحاضرات الجامعية، التي شكلت النموذج التقليدي للتعليم لقرون عديدة، ولا سيما مع ما توفره منصات التعلم القائمة على الحوسبة السحابية من تجارب تعليمية أكثر ديناميكية وتفاعلية وتخصيصاً، حيث يمكن للطلاب اليوم الوصول إلى المواد الدراسية، والتعاون في المشاريع، والتفاعل مع الأساتذة من أي مكان في العالم، مما يوسع آفاق التعليم ويجعله متاحاً لأكبر عدد ممكن من الناس حول العالم.
علاوةً على ذلك، تفتح الحوسبة السحابية آفاقاً جديدة في مجال البحوث. إذ أصبح إجراء عمليات المحاكاة المعقدة التي كانت تتطلب حواسيب عملاقة أمراً ممكناً اليوم على منصات يسهل الوصول إليها، عادةً من خلال متصفح الويب، مما يسمح للباحثين من مختلف التخصصات بمعالجة مشاكل أوسع نطاقاً وتعقيداً بطرق لم تكن ممكنة من قبل. وتسهم تكنولوجيا السحابة في تسريع وتيرة الاكتشافات العلمية، بدءاً من إعداد النماذج المناخية ووصولاً إلى نماذج التسلسل الجيني.
وتُظهر نماذج Pangu من هواوي قدرة التكنولوجيا السحابية في تغيير مفاهيم الابتكار. وتم إطلاق Pangu كجزء من هواوي كلاود، وهو يستفيد من الذكاء الاصطناعي لتوفير سيناريوهات عملية في مختلف القطاعات. على سبيل المثال، يستغرق تطوير دواء جديد 10 سنوات وسطياً وبتكلفة تقدّر بمليار دولار أمريكي. في حين حقق نموذج "بانغو دراج موليكيول" (Pangu Drug Molecule Model) من هواوي تقدماً غير مسبوق في مجال تسريع اكتشاف المركَّبات الدوائية الرئيسية، حيث قلّص المدة الزمنية من عدة سنوات إلى شهر واحد فقط، الأمر الذي قلل تكاليف البحث والتطوير للأدوية بنسبة 70%.
من جهة أخرى، تغيرت الطريقة التي تدير بها الجامعات شؤونها بشكل جذري، حيث تعمل الأنظمة السحابية على تبسيط العمليات الإدارية بكاملها، بدءاً من إجراءات القبول وصولاً إلى علاقات الخريجين. وتعني قابلية التوسع في الحلول السحابية أن الجامعات يمكنها التكيف بسهولة مع المتغيرات، سواء كانت تواجه زيادة كبيرة في عدد الطلاب المسجلين في الدورات التدريبية عبر الإنترنت، أو إدارة كميات هائلة من البيانات البحثية. وتعزز هذه المرونة بدورها من مستويات الكفاءة بشكل كبير مما يؤدي إلى تحقيق وفورات مالية هائلة، وهو أمر بالغ الأهمية في ظل الضغوط المتزايدة على الميزانيات التعليمية والمطالبة بزيادة قيمة التعليم العالي مقابل تكاليفه.
ولعل الأهم من ذلك أن السحابة تمهد لبداية حقبة جديدة من التعاون الأكاديمي، حيث بات بمقدور الباحثين من مؤسسات مختلفة الآن مشاركة البيانات والرؤى بسلاسة، مما يكسر الحواجز التي لطالما أعاقت العمل متعدد التخصصات. كما أنها تتيح للطلاب الانخراط في مشاريع عالمية، واكتساب خبرات قيّمة متعددة الثقافات دون مغادرة حرم جامعاتهم. ومع ترسخ هذا النمط الافتراضي كشكل أساسي للتعاون الأكاديمي، يظهر جيل جديد من الخريجين يتمتعون بمهارات تعاونية قوية وقادرين على العمل في بيئات عالمية.
وبينما نتطلع إلى المستقبل، أصبح من الواضح أن التقنيات السحابية هي حجر الأساس في تشكيل مجتمع متمكن رقمياً. وبما أن الجامعات هي الحاضنة التي ترعى وتُعد الجيل القادم من المبتكرين الرقميين، فإن الطلاب الذين يتعلمون في بيئات مدعومة بالتكنولوجيا السحابية يطورون المهارات والعقلية اللازمة للازدهار في عالم رقمي متنامٍ، مما يحوّلهم من مجرد مستهلكين للتكنولوجيا إلى قادة مبدعين سيحددون شكل الابتكارات القادمة.
ويُعد الإعلان الأخير عن خطة عمانتل الطموحة لبناء سحابة وطنية بالشراكة مع شركة هواوي مثالاً قوياً على إدراك الدول للإمكانات التحويلية لهذه التقنيات. وتهدف هذه المبادرة إلى تعزيز البنية الأساسية الرقمية في عُمان وإرساء الأساس لمستقبل يرتبط فيه التعليم والابتكار والنمو الاقتصادي ارتباطاً وثيقاً.
وينطوي مشروع السحابة الوطنية في عُمان على أهمية خاصة بالنسبة لقطاع التعليم العالي، فهو سيزوّد جامعاتنا ببنية تحتية سحابية عالمية المستوى، مما قد يسرّع من القدرات البحثية ويعزز برامج التعلم عن بُعد، ويسهل العمليات الإدارية. علاوةً على ذلك، يضمن المشروع إقامة البيانات داخل عُمان مع تطبيق تدابير أمنية قوية لحمايتها، وبالتالي يعالج المخاوف الهامة بشأن سيادة البيانات والخصوصية، وهي قضايا ترتبط بقطاع التعليم على وجه الخصوص.
كما تسلّط الشراكة بين عمانتل وهواوي الضوء على اتجاه هام يتمثل في التقارب بين قطاعي الاتصالات والحوسبة السحابية والتعليم. ويفتح هذا التكامل آفاقاً جديدة من الحلول المبتكرة التي تلبي احتياجات مؤسسات التعليم العالي على وجه التحديد.
لا تقتصر أهمية التقنيات السحابية على تطوير نماذجنا التعليمية الحالية وحسب، وإنما تشكّل ركيزة أساسية لإحداث تحول جذري في قطاع التعليم. ونحن نقف على أعتاب ثورة تعليمية تتطلب تضافر جهود الجامعات وصنّاع السياسات ومزودي حلول التكنولوجيا معاً لتحقيق أقصى استفادة من قدرات السحابة.
في نهاية المطاف، تتجاوز السحابة كونها مجرد تكنولوجيا؛ حيث تنضوي على إمكانيات هائلة، وتمثل منصة لإطلاق آفاق جديدة في مجالات التدريس والتعلم والاكتشاف. ولكن بينما نستكشف معالم هذا العالم الرقمي الجديد، يجب أن نضمن أن استخدامنا للتقنيات السحابية يتماشى مع جوهر التعليم العالي الذي يشمل توسيع نطاق المعرفة، وتعزيز التفكير النقدي، وإعداد الطلاب لمواجهة تحديات الغد. ومع ترسخ دور تكنولوجيا السحابة كمفتاح أساسي لمستقبل التعليم، فإننا نستبشر مستقبلاً واعداً ومشرقاً أكثر من أي وقت مضى.