هنـا.. العـراق

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٧/مايو/٢٠١٦ ٠٠:٣١ ص
هنـا.. العـراق

محمد بن سيف الرحبي

أجمل المواعيد ما لم ننتظره..

وأحلى المدن تلك المطلة على غير موعد.. تلبس فتنة أنثوية لتدعوك إليها في لحظة عجلى.. وفي موعد أول.

لم أكد أحط رحالي حيث قدمت من استكشاف مدينة أفريقية بعمق التاريخ وهو يغتسل على ساحل زنجبار حتى يممت وجهي صوب.. العراق.
وكان المسار يحملنا إلى مطار النجف.. مواصلين لا قصدية تأخذنا كما تشاء المقادير، حيث لا معنى للمخاوف من الموت المترصد.. في شارع أو مقهى.
هذه العراق إذن: القصائد والمدائن وكربلاء.. وما شاء للذاكرة أن تسفحه إذ تستعيد ما هو أصعب من فكرة الاستعادات.
هي عراق نازك والسياب والجواهري والبياتي يصوغون على دجلة مواعيد القصيدة تأتي بها النسمات مع ارتعاش الموج..
وهي حنجرة ناظم الغزالي “عيرتني بالشيب” وبحة صوت سعدون جابر “يا طيوري الطايرة”.. وطرب ياس خضر وغزليات كاظم الساهر ومقامات فريدة، ترفرف فوق الفرات.
عراق سنوات الحروب والحصار والمفخخات والصراع الممتد من قصور السياسيين إلى معتقدات الفقراء.
كانت هناك بابل على الوعد والموعد..
في الطريق إلى مدينة الحلة عبرتنا نخيل العراق أو ما تبقى منها.. وعبرنا تفرعات نهر الفرات كأنما الماء يخفي شهادة التاريخ عما عرفه هنا من كرامات أنبياء وسير أولياء.. ودموع بكاة.
وكانت قرية ذي الكفل تستعيد القصة القرآنية كما هي صور شباب على الشوارع تصفهم العبارات بالشهداء.
كان للشوارع ألفة تعيدها لافتات الكتائب والحشد الشعبي إلى واجهة عراق يحاول النهوض كما يستحق كل عراقي فيه.. وتلك الرايات السوداء والخضراء في أمكنة تتنفس محبة الإمام علي وهي تنثر صوره، وتسفح دمعها على الشهداء من ذريته، وهي تستذكر الوقائع كأنما التاريخ لا يزال طرياً بدمائهم الزكية.
أحاول أن أقرأ المكان وسط غبار الطقس الصيفي الزاحف والمناخ السياسي المتقلب..
أن أقرأ سيرة بلد العباسيين بأفق العروبة لا المذهبية.. وأن أتصفح سيرة بغداد ولو عبر عناوين اللافتات على الشوارع.
أراها بانتظارات الفلاحين لموسم حصاد الحيطة..
بمرقد النبي أيوب حيث الآبار السبعة تخفي أسرار مائها..
بتلك الأمكنة التي تغالب السنوات العجاف والأحوال الاقتصادية في زمن تراجع أسعار النفط.. وانقشاع ضباب بقية الأزمات إذ رحل الزعيم الأوحد والبطل المهيب.. فانفلقت تربتها عن عشرات الزعماء وآلاف الأبطال المتناحرين في مرحلة نقاهة هشة.
تختزل الحلة الأرقام في أسماء شوارعها، شارع الستين والأربعين والعشرين.. وترقب افتتاح شارع المائة، أسال مستقبلنا عن السر في ذلك لكن الإجابة ليست حاسمة لتوضيح الغامض.
ما زال المكان يعرض صفحته الأولى.. وللحديث بقية.