جاء في خطاب جلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله بمناسبة انعقاد المؤتمر السنوي الأول للدورة الثامنة لمجلس عمان عام 2023 ما يلي:" إننا إذ نرصد التحديّات التي يتعرّض لها المجتمع ومدى تأثيراتها غير المقبولة في منظومته الأخلاقية والثقافية؛ لنؤكد على ضرورة التصدي لها، ودراستها ومتابعتها، لتعزيز قدرة المجتمع على مواجهتها وترسيخ الهوية الوطنية".
إن مفهوم الهوية الوطنية مفهومٌ مهمٌّ وضروريٌّ، ومن خلاله نستطيع ضمان التعايش السلمي بين المكونات الاجتماعية والدينية، وإن كان هذا المفهوم في بعض البلدان في العالم لا يرقى إلى مستوى فهم التعايش السلمي لأنه لا قيمة له عندهم بسبب تعارضه مع أهداف وأجندات بعض الفئات المجتمعية، وهذا التعارض تحكمه طبعاً عقيدة الطائفية في نظام الحكم الذي يسعى إلى تهميش بعض المكونات الدينية أو المذهبية على حساب مذهب هو عقيدة تلك الدولة. وهذه التعارضات قد تدخل في تحديد مسار بعض الفئات الاجتماعية ذات العقيدة التي تخالف عقيدة الدولة حيث يتم كسر إرادة تلك الجماعات والتمييز بين الحقوق والحريات لهذه المكونات الدينية أو المذهبية وهو ما عُرف بالطائفية السياسية، وهذا ما نلمسه دائماً أنه كلما اشتدت المحن على الأمة الإسلامية وحدثت فيها تمردات شعبية برزت الطائفية السياسية على السطح فتعيش عندها المجتمعات حالة من انعدام الأمن والاستقرار بشكل غير مسبوق، هذا وقد أصبحت هذه الظاهرة علنية منذ عام 2011م على الرغم من أنها ليست جديدة على صعيد الثقافة السياسية ، ولكن الجديد فيها أنها تحولت إلى عقيدة داخل العقل السياسي وبالتالي لن تكون هناك مساحة لترسيخ الهوية الوطنية .
هذه التجربة موجودة في بعض البلدان في العالم وتعيشها مجتمعاتهم ، وهناك تجربة أخرى لفهم مفهوم الهوية الوطنية وهي عندما تسعى الدولة لتحقيق الهوية الوطنية في إطارها العام وهو ما يعرف بالدولة المواطنة والقانون التي تحترم الأكثرية والأقلية وتضمن حقوقها من دون التمييز بين المكونات الاجتماعية سواء على مستوى الدين أو على مستوى المذهب هنا تتكافأ الفرص بين أبناء هذا المجتمع، ولعلّ المجتمع العماني قد خاض تجارب عديدة في هذا المضمار منذ عقود خلت في الحفاظ على الهوية الوطنية وخير مثال على ذلك عندما واجه المواطن العماني الإستعمار البرتغالي كتعبير عن الهوية المستقلة المتمايزة عن الآخر لم يستطع هذا الإستعمار فرض هويته ، لماذا ؟ لأنه المواطن العماني تمسك بتراب وطنه وهذا التمسك كان عنواناً لوحدة الهوية ، علاوة على ذلك فإن التاريخ العماني يزدحم بالأنساب والأعراق والمذاهب المختلفة وهذا الاختلاف هو من طبيعة الإنسان، إذ لا يمكن أن تجد فرداً قد اتفق مع فرد آخر في كل شيء، ولكن تبقى العموميات حلقة وصل في التعايش بين بعضهم البعض، وهذا هو سرُّ التعايش السلمي بين أبناء الشعب العماني، وهذا حتماً يعود إلى أسباب عدة أذكرها على سبيل المثال وليس الحصر :
أولاً: الدولة ليست حاضنة لفئة مذهبية معينة، وإلّا لكان مفهوم الهوية الوطنية التي تطلقها الدولة هو مجرد شعار سياسي، لأنه لو كان كذلك لوجدنا المجتمع العماني قد انقسم إلى مكونات عديدة، فواحد يريد الانفصال عن الوطن لمعرفته أن الدولة لا تُمثّله، وآخر يعمل على إيجاد القلاقل الداخلية لأنه يعيش الإحساس والشعور بالتهميش فيبحث عن قوى سياسية خارجية تدعمه في مشروعه التخريبي، لهذا نجد أن أبناء بعض الدول في أنحاء العالم مختلفون مذهبياً وسياسياً لا يجمعهم سوى الرابط السياسي ألا وهو جواز السفر فقط، وهذا الوصف لن تجده في البيئة العمانية إطلاقاً ولكن لماذا ؟ لأن الطائفية بمختلف تعبيراتها محرمة في التشريعات العمانية هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الدولة لم تسمح أن تكون أراضيها مسرحاً لتجاذبات الفكر الإنحرافي الضلالي.
ثانياً: لا توجد فوارق في المكون الاجتماعي في عمان، وإن كانت هناك أصوات تنادي بين حين وآخر أن حبَّ الوطن يجمعنا وهي بذلك تريد إلغاء الفوارق الزائدة المتمثلة في المكونات الدينية والمذهبية، ولو سلمنا أن الدولة قامت وألغت هذه الفوارق لوجدنا أنها اصطدمت مع أول مفترق أو حدث، وحادثة إطلاق النار الذي وقع بتاريخ 14 يوليو 2024م في الوادي الكبير بمحافظة مسقط خير دليل على أن الدولة لم تصطدم مع المكون المذهبي ولم تؤثر هذه الحادثة على الثوابت الوطنية ، لماذا ؟ لأن الخطاب الذي يريد إلغاء هذه الفوارق خطاب غير واقعي.
هنا يجب أن ندرك أن الخطاب السياسي لجلالته حفظه الله في تعزيز قدرة المجتمع على التصدي للتحديات التي يواجهها المجتمع العماني وترسيخ الهوية الوطنية هو أن الهوية الموحدة هي ما يسمح ببناء الدولة الموحدة المستقرة وأن أي ارتداد إلى الهويات الإثنية أو العرقية أو المذهبية هو نكوص عن فكرة الهوية الجامعة ،بالنتيجة إن الهوية الوطنية صمّام أمان عماده التعايش والتحالف بين أبناء الشعب العماني الواحد.