كان الصراع على الحكم – وبالتالي السياسة – أول صراع وأشد صراع وأقدم صراع في الاسلام. وكان السؤال المطروح بقوة في سقيفة بني ساعدة: أيهما يكون اميرا وأيهما يكون وزيرا؟والإفرازات من تلك الصراعات جاءت بواسطة الموروثات الناتجة.ومحيط تلك الموروثات واسع ومتنوع ومناط خلاف في التقييم،وأنتج تعارضا في المفاهيم،وتُرجم ذلك في الصراعات الدموية التالية.
ومع مرور الوقت لم يبقَ الموروث دون المساس به،بل طوره الوارث نحو الأرقى او الانتكاس ، الى حالة مختلفة عن الأصل .
ليس الاسلام الصحيح ما يدعيه كل فريق لنفسه بصفته الاسلام الحقيقي وما عداه الكفر،بل هو مجموع ما يدعيه الفرقاء كلهم.ان نبوة محمد إسلام،والخلفاء الراشدون إسلام،ولكنه ايضا سقيفة بنى ساعدة والمهاجرون والانصار والفتنة الكبرى ومعارك القادسية والجمل وصفين والنهراوان وكربلاء والحرة والزاب الاسفل، هو جزء من تاريخ الاسلام .الاسلام الذي تمارسه هو ايضا هو الايمان باهل البيت والدولة الاموية والعباسية والرستمية والفاطمية والعثمانية والصفوية ودولة الاشراف في الحجاز،وكل الدول التي تأسست وحكمت باسم الاسلام.كما هو الفِرق والنحل التى خرجت عليها وحاربتها بالفكر او السلاح،والفقه الذي توارد على كتابته الفقهاء على اختلاف مدارسهم الفكرية ومذاهبهم والذي تكرّس فيه تناقضات المسلمين الناتجة من خلافاتهم السياسية والمعرفية. هو ايضا الحضارة الاسلامية المترامية الأطراف وتراثها الذي تحول الى إرث نقاتل من اجله : من كان على حق ومن كان على باطل ؟
عصر الحضارة الاسلامية انتهى في القرن التاسع الهجري وتوقفت المدنية الاسلامية من التطور ودخل العرب في استعصاءهم الذي افرز صراعات مذهبية ما زالت تلازمهم .
مع وقف المتوكل العباسي الاجتهاد،تم إقالة العقل وتحولت المدارس الفكرية الاجتهادية الى مذاهب منغلقة تقاوم كل نزوع عقلي او فلسفي وتوقفت حركة الترجمة تحت شعار محاربة البدعة.
وبعد سقوط بغداد،حصلت المذابح الاكثر عنفا ضد النزوع العقلي وصولا الى القتل بين اتباع المذاهب الإسلامية ذاتها وبينها والمذاهب الأخرى واستمرت لاكثر من قرنين. أُحرقت كتب الترجمة وكل الكتب الداعية إلى النزوع العقلي وامتدت المذابح الى كل البلدان الإسلامية.كل مذهب يُقبّح الاخر ويتهمه بالخروج عن الملة.وتواصلت المذابح بعد ذلك ايام الدولتين العثمانية والصفوية،بين السنة والشيعة من جهة وبين السنة انفسهم والشيعة انفسهم من جهة اخرى .
الصراع الطائفي ظاهرة قديمة . و قد شهدت أوروبا هذه الصراعات الداميه،ولكنها تمكنت من مغادرة هذه الحقبة من الاحتراب التي حشرتهم فيها الكنيسة ومكّن ذلك الاروبيين بالخلاص من هيمنة الكنيسة، كما مكّنهم من اعادة دراسة تاريخهم الملتبس مع افكار وتفاسير الكنيسة ومن دون اخضاعه لمبدأ القداسة وبمناهج حرة تعتمد على ما سماه ابن خلدون بطبائع الاشياء او ما يمكن تسميتها بقوانين التاريخ ونواميس الكون. وكانت النتيجة التقدم الأوروبي .
الصراع الطائفي لدى المسلمين ، كما عند المسيحين،له جذور سياسية واجتماعية وقبلية وعائلية واقتصادية،ولكنه اُعطي منحا طائفيا لكي يثبت ويستمر ويسهل استغلاله.
لأسباب عديدة،بدأ الصراع يتصاعد في الشرق ويستمد وقوده من المخزونات البدائية الكامنة في تكوين مجتمعاتنا بشكل عام كما يكمن باولئك الذين يؤدلجون البسطاء من الطبقات الفقيرة،ويطفو على السطح بشكل بارز ايام الانفلات الأمني وغياب القانون.وتنفجر كل مظاهر الحقد الطبقي والحسد الاجتماعي وتخرُج العقد السيكولوجية لتخرب كل شي. وتقف فئات تدعي انها متعلمة ومثقفة ومن مختلف الطوائف مع ذلك الاصطفاف الطائفي بدلا ان تدرس الاسباب الكامنة لكل مشاكلنا.رأينا ذلك في البلدان التي أنهارت انظمتها الشمولية وتوقف القانون عن العمل. وظهرت على السطح تلك النوازع الرهيبة وسادت ثقافة البداوة والغزو،حتى سمعنا صيحات الله اكبر على عمليات الضرب حتى الموت والسحل واكل الاكباد حتى تتلاشى الجثث،كما حصل في عراق اول شريعة واول لغة مكتوبة ومصر الحضارة والفن والابداع،وسوريا مهد اول مدينة في العالم،وفي اماكن عديدة غيرها مأساة ومأساة .
يدعي البعض ان ما نشهده هو نتيجة تحريض من الخارج،ذلك صحيح وموثق ولكنه ابعد شيئ عن الدقة.هناك بالتأكيد من يساعد هذا التوجه الطائفي بالتحريض والدعم والتمويل ، ولكن تلك ايضا صناعة عربية اسلامية بامتياز. ومن له شك ليطالع الفتاوي الهائلة وخطب المساجد وتصريحات بعض السياسيين و كتاب الاعمدة ، وتصريحات بعض علماء الدين و ليتابع منصات التخاطب الاجتماعي،وكلها تؤجج الخلاف والقتال والاحتراب بين المسلمين انفسهم وبينهم وبين الاخرين .ويدلي كثيرون منهم - سنة وشيعة و غيرهم – بدلوهم،شأنهم شأن اية جماعة دينية طائفية متطرفة سائدة في محيطها.وتتعقد المشكله مع الاختلافات السياسية وانسداد آفاق التنمية وغياب فكرة المواطنة.
لا يستطيع احد ان يستغل الا ما هو قابل للاستغلال. اي ان المناخ المولد لظاهرة ما،هو الذي يساعد اكثر من غيره على ظهوره. التحريض والمساندة والدعم وحدها لن تكن قادرة على ان توجه وتؤثر. ما لم تكن الارضية جاهزة والجو مهيأ .
وهذه حقيقة تغيب عنا،ومن هذه الغيبة يكون الخطأ في التشخيص و الخطأ في العلاج .. والواقع ان ما نواجهه هو شيء من هذا النوع. مرض قديم قابل للعودة اذا ما قلت المناعة ضده.وفي نفس الوقت طب بدائي يلجأ الى نحر الذبائح دفعا للارواح الشريرة يحسبها داعي للمرض.
ان ما يحدث على امتداد الخارطة العربية،هو انعكاس لتلك الثقافة المنغلقة التي ورثناها والتي تقودنا الى مسالك الانتحار الجماعي،وتلك الاوهام والخرافات التي تسيطر علينا وعن تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا. هي تلك البيئة الفكرية والمنظومة القيمية والتعليمية والتربوية التي ما زالت تعيد انتاج التأخر ، ومعهما الوجدان القمعي الذي يريد إقصاء الاخر المختلف .وستستمر تلك البئية وذلك السلوك،وسيقتل ويسحل الالاف،طالما بقت دوائر الوعي مسجونة في أورقه الخرافة وما تنتجها من شتى انواع التطرف . ومع استمرار تلك البيئه المتخاصمة لكل ما هو عقلاني ، سيبقى الحال على ما عليه. والطائفية بكل أشكالها تعكس عن فشل ذريع في بناء الدولة المدنية العصرية التي ترتكز على مفهوم المواطنة والتعددية .والدول التي تراجعت فيها الطائفية هي الدول التي تمكنت من نشر ثقافة وطنية واقامة نسق وطني متماسك رغم تعدد الانماط العرقية و الدينية والطائفية فيها. والمناعة الوطنية ضد الطائفية وتفريعاتها القبلية والعرقية والمناطقية تتطلب اصالة مبدأ المواطنة وعموميته بشكل جلي وجذري على فرعية الاعتبارات ذات الصله بالخصوصيات.
على ان تعزيز مبدأ المواطنة لن يكون ناجحا بمعزل عن فهم شامل لسمات الدولة العصرية ، بما في ذلك مبدأ العدل والمساواة وكرامة الانسان والمشاركة والتعددية في كافة أمور ادارة الشأن الوطني،وبناء اقتصاد وطني قوي متنوع المصادر.
الدوله العصرية ليس مجرد بناء أجهزة الجيش والامن.الدولة تستطيع ان تقيم جيشا واجهزة امن،ولكن اي من تلك الاجهزة لا يستطيع ان يقيم دولة عصرية . فالدولة العصرية والجيش العصري واجهزة الامن العصرية محصلة موارد وقدرات شعب وطريقة الحصول على الثروة واستنارة فكر وتوازن طبقات وادراك عميق لفكرة ان المجتمعات تعيد صناعة مستقبلها جيلا بعد جيل بوسيلتين اساسيتين هما : التعليم والتشريع العصريان والمتغيران.
و ما لم يدرك العرب على خصوصيتهم المثقلة باعباء التاريخ والمجتمع ويتمكنوا من التعرف عليها في الوقائع العينية لتجاربهم الماضية والمعاصرة الخاصة بهم،فانهم لن يغادروا الحالات الموجودة التي يتداولونها كل يوم عن مصير اوطانهم في نشرات الاخبار.وكل " أت" سوف يكون اكثر مدعاة " للأسف " من " المأسوف عليه " مع الاسف الشديد، ساحبا معه حرائق الطائفية بكل انواعها وتفريعاتها