مواصلة طريق آينشتاين

مقالات رأي و تحليلات السبت ١٤/مايو/٢٠١٦ ٢٣:٤٤ م
مواصلة طريق آينشتاين

ماريك أبرامويس

منذ زمن سحيق في مجرة فضائية نائية جدا، اصطدمت وتوحدت اثنتان من الثقوب السوداء الهائلة - كل واحدة منهما كٌتلتها أكبر بثلاثين مرة من الشمس - وبعثت انفجارات قصيرة وقوية من موجات الجاذبية. فانتشرت طاقة الانفجار عبر الكون بسرعة الضوء، وخفت قوتها بانتشارها في الفضاء الهائل.
بعد مرور أكثر من بليون سنة، وصلت طاقة الانفجار اٍلى الأرض كإشارة ضعيفة بشكل لا يصدق، واستمرت لمدة عٌشٌر الثانية. وفي 14 سبتمبر/ 2015، اكتشف علماء من مرصد قياس موجات جاذبية تداخل الليزر (ليغو) في الولايات المتحدة موجات الجاذبية مثل ذبذبات لطيفة - وبهذا أثبتوا أول تأكيد لتنبؤ ألبرت أينشتاين قبل 100 سنة.
يستخدم مركز ليغو، الذي يعمل تحت إشراف المؤسسة الوطنية الأمريكية للعلوم، اثنان من مقاييس التداخل المتقدمة. فعجائب التكنولوجيا الحديثة هذه، تقع على نهاية الطرفين من البلاد وقد وضعت حيز التنفيذ قبل وقت قصير من نجاح عملية قياس موجات الجاذبية المعروفة باسم (GW150914)، والتي تستخدم مبدأ تداخل الضوء. وكشفت هذه العملية السلالات في هندسة الفضاء والزمن الناجم عن موجات الجاذبية وذلك عن طريق قياس التغيرات في طول ومقياس التداخل. وفي حالة (GW150914)، فقد تغير الطول بأقل من واحد في الألف من حجم البروتون.
كانت التحديات في الكشف عن مثل هذا التغيير الصغير هائلة، نظرا لأنواع مختلفة من الضوضاء التي يمكنها التأثير على القياس وتدمر وحدته. وقام ليغو بعزل الذبذبات الصغيرة والقصيرة خارج الفوضى المنتشرة في الفضاء من خلال مقارنة مقياسا التداخل الاثنين. فالصوت في المقياس الأول غير مرتبط بالصوت في المقياس الآخر - على عكس إشارة من موجة جاذبية عابرة، والتي من شأنها أن تظهر في الأول في مكان ثم في مكان آخر. وقد تزامنت هذه الإشارة من GW150914 بهذه الدقة الرائعة بحيث يستبعد كونها حدثا زائفا.
بلا شك هذا الانجاز يجب أن يفوز بجائزة نوبل. فالسؤال الوحيد هو من الذي يستحق هذه الجائزة. فنجاح LIGO هو ليس فقط انتصار للتكنولوجيا. بل هو أيضا - والأهم من ذلك - نتيجة قرن كامل من عمل المنظرين على أوصاف حسابية لموجات الجاذبية - وليس فقط أينشتاين، بل هناك أيضا ليوبولد إنفيلد، جوشوا غولدبرغ، ريتشارد فاينمان، فيليكس بيراني، ايفور روبنسون، هيرمان بوندي، وأندريه لشنيرويس.
وكان اكتشاف ليغو بالتحديد ممكنا بسبب الفيزيائي البولندي أندريه تروتمان، الذي قدم نظرية موجة الجاذبية بصرامة رياضية حادة، وبمساهمة العالم الفيزيائي الفرنسي تيبولت دامور، والذي طورالأدوات الحسابية العملية لاستخدام جبهات الموجات المرصودة لحل شفرة المعلومات حول مصادر الأمواج . وقد أسس عملهم قاعدة رياضية صلبة من الناحية النظرية التي جعلت نجاح ليغو ممكنا.
وأعتبر نظرية آينشتاين في النسبية العامة أعظم إنجاز فكري بشري على الإطلاق. ورغم ذلك، لم يحصل أحد على جائزة نوبل لتطوير أسسه الحسابية. وقد منحت الجائزة لعلماء الفيزياء التجريبية الذين قدموا تأكيدات رصدية لبعض التنبؤات المهمة في النظرية. كما أعطيت أيضا لعلماء فيزياء الكم تقديرا لأعمالهم الحسابية البحثة. ولكنها لم تٌعط لمٌنَظر باحث في النسبية.
آمل أن تدرك لجنة نوبل هذا العام أهمية العمل النظري بإعطاء الجائزة بالنسب الصحيحة: لفيزيائي تجريبي، من أجل تطوير المفاهيم التكنولوجية وراء ليغو، ولاثنين من المنظرين الصافيين: تروتمان ودامور.
وهناك المزيد من الاكتشافات التي سيقوم بها ليغو - ونظيره الأوروبي الذي يدعى فيرغو. فقياسات موجات الجاذبية لن توفر سوى نظرة ثاقبة للظواهر التي كانت حتى الآن بعيدة المنال، مثل الانفجار الكبير، وآفاق الثقب الأسود، وباطن النجوم النيوترونية. وباٍمكانهم أيضا إحداث ثورة في فهمنا للكون.
وتصف نظرية النسبية العامة ظواهر فيزيائية واسعة النطاق: البشر والصخور والكواكب والنجوم والمجرات والكون كله. فميكانيكا الكم، من ناحية أخرى، حاصلة على نفس القدر من النجاح في وصف الكون في أصغر المقاييس: الكواركات والإلكترونات، والذرات، والجزيئات.
ولا زالت هذه النظريات الأساسية للفيزياء الحديثة متعارضة، إن لم تكن متناقضة، حيث لم يتم العثور على نظرية الجاذبية الكمية حتى الآن، على الرغم من الجهود المبذولة. وقد تم اقتراح عدة نماذج للجاذبية الكمية لظواهر معينة تشمل الثقوب السوداء. لكن بما أنه لم يتم اختبار أي منها تجريبيا، لا أحد يعرف ما إذا كانت هذه النماذج صحيحة أم لا (في الواقع، بعضها يقود لمفارقات حادة).
واقتنع العديد من الفيزيائيين أن هذه المشاكل تدل على وجود عنصر مفقود في فهمنا للمبادئ الأساسية للطبيعة. مع الأسف في حالة من اليأس، وبكثير من الغطرسة، يشير البعض إلى مفاهيم مجنونة للجاذبية الكمية، بما في ذلك بدائل غريبة عن الثقوب السوداء القياسية لأنشتاين - مع عدم وجود أي أساس تجريبي. ونتيجة لذلك، فقد تحولت المشكلة الأساسية من محاولة التوفيق بين النظريتين بالنسبة لكثير من علماء الفيزياء اليوم اٍلى هراء لا معنى له.
فالمطلوب الآن هو حقائق تجريبية صلبة لاٍبعاد كل هذا الهراء، وربما تكون هذه الحقائق مصدر إلهام لإيجاد حل لهذه المعضلة. وهذا هو بالضبط ما يمكن أن توفره القياسات المستقبلية لموجات الجاذبية.

أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة غوتنبرغ، السويد.