أموال الهليوكوبتر المنضبطة

مقالات رأي و تحليلات السبت ١٤/مايو/٢٠١٦ ٢٣:٣٩ م
أموال الهليوكوبتر المنضبطة

أدير تيرنر

في مواجهة تباطؤ الاقتصاد العالمي، زعم عدد من المراقبين ــ بما في ذلك رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق بن برنانكي والخبير الاقتصادي من بيركلي براد ديلونج ــ أن التوسع المالي الممول نقدا لا ينبغي أن يُستَبعَد من الأدوات السياسية. ولكن الحديث عن "إنزال الأموال بالهليوكوبتر" (حفز الاقتصاد بتوزيع نقود مطبوعة حديثا) أسفر عن شن هجمة مرتدة قوية، من قِبَل أشخاص مثل مايكل هايس كبير خبراء الاقتصاد لدى أليانز، وكويتشي هامادا، كبير مستشاري رئيس الوزراء شينزو آبي للشؤون الاقتصادية وواحد من مهندسي برنامج التعافي الاقتصادي في اليابان والذي أطلِق عليه وصف "اقتصاد آبي".
لا أتفق مع هايس وهامادا، ولكنهما يركزان كما ينبغي لهما على القضية المركزية ــ خطر الاستخدام المفرط الذي قد يترتب على السماح بأي تمويل نقدي. والسؤال الحاسم هو ما إذا كان بوسعنا أن نصمم القواعد والمسؤوليات الكفيلة بدرء هذا الخطر. وأعتقد أننا قادرون على هذا، بل يتعين علينا أن نفعل هذا، وأن البديل في بعض البلدان لن يكون عدم التمويل النقدي، بل التمويل النقدي غير المنضبط.
كما زعمت في بحث حديث لصالح صندوق النقد الدولي، لا تقبل الحجة الفنية لصالح التمويل النقدي الجدال. فهي السياسة الوحيدة القادرة دوما على تحفيز الطلب الاسمي، حتى عندما تصبح سياسات أخرى ــ مثل العجز المالي الممول بالاستدانة أو أسعار الفائدة السلبية ــ غير فعّالة. ومن الممكن من حيث المبدأ معايرة تأثيره على الطلب الاسمي: فكمية قليلة منه من شأنها أن تنتج حافزا قد يكون مفيدا للناتج أو مستوى الأسعار، في حين تؤدي كمية كبيرة للغاية منه إلى إنتاج التضخم المفرط.
لا يعني هذا إنكار التعقيدات الكبيرة المترتبة على تنفيذ إنزال الأموال بالهليوكوبتر. فإذا عمل خلق النقود على تمويل التخفيضات الضريبية بدلا من زيادة الإنفاق العام، فسوف يتوقف التأثير على مدى ما ينفقه المستهلكون في مقابل ما يقررون ادخاره ــ وهو التوازن الذي قد لا يكون مستقرا بمرور الوقت. ولأن خلق النقود عن طريق البنوك المركزية يزيد من احتياطيات البنوك التجارية، فلا يخلو الأمر من خطر زيادة الإقراض قليلا في البداية، ثم بسرعة بعد ذلك. بيد أن هذه التعقيدات تمثل ببساطة حُجة لصالح اتباع نهج حذر في تحديد حجم التمويل النقدي والاستخدام الحريص للأدوات ــ مثل متطلبات الاحتياطي النقدي ــ لتقييد التأثيرات المتسلسلة اللاحقة.
والحجة الوحيدة القوية ضد توزيع النقود المطبوعة حديثا هي تلك التي يؤكد عليها هايس وهامادا ــ الخطر السياسي المتمثل في فرط الاستخدام. فإذا لم يعد التمويل النقدي محظورا، فربما يستخدمه الساسة لاستمالة جمهور الناخبين أو الإفراط في حفز الاقتصاد قبيل الانتخابات. ويسوق هامادا اقتراحا غريبا مفاده أن أنصار التمويل النقدي يتجاهلون هذا الخطر؛ ولكن في البحث الذي أعددته لصالح صندوق النقد الدولي، وفي مشاركة حديثة لبرنانكي على مدونته، يشكل هذا الخطر أهمية مركزية.
يقدم لنا التاريخ أمثلة كثيرة للتمويل النقدي المفرط، من ألمانيا فايمار إلى الاقتصادات الناشئة العديدة حيث ضغطت الحكومات على البنوك المركزية لحملها على تمويل عجز مالي كبير، فكانت النتيجة الحتمية التضخم المرتفع. ولهذا، فهناك حجة صحيحة مفادها أن مخاطر التمويل النقدي المفرط كبيرة إلى الحد الذي يجب معه حظرها تماما، حتى وإن كان أفضل الحلول في ظل بعض الظروف.
ولكن الحجة الصحيحة ليست مقنعة بالضرورة. ذلك أن سياسات أخرى لدعم نمو الطلب، أو الفشل في تنفيذ أي سياسة، قد يكون على نفس القدر من الخطورة. فكان الانكماش، وليس فرط التضخم، هو الذي دمر جمهورية فايمار. وقد تحقق النجاح الانتخابي الساحق الذي أحرزه هتلر عام 1932 وسط حالة اتسمت بهبوط الأسعار بسرعة كبيرة.
سوف تخلف السياسات البديلة في ظل بعض الظروف تأثيرات جانبية ضارة. والواقع أن السبب الرئيسي وراء المشاكل العويصة اليوم يرجع إلى النمو الائتماني الخاص المفرط قبل عام 2008. وإذا كان طريقنا الوحيد للخروج يمر عبر أسعار الفائدة السلبية بالقدر الكافي لإعادة تنشيط النمو السريع، فإننا بهذا نحكم على أنفسنا بتكرار نفس أخطاء الماضي.
علاوة على ذلك، لا يوجد سبب يمنعنا من بناء القواعد والمسؤوليات اللازمة لتخفيف الخطر السياسي المتمثل في الاستخدام المفرط. فقد اقترح برنانكي على سبيل المثال إعطاء البنوك المركزية المستقلة سلطة الموافقة على الكم الأقصى من التمويل النقدي إذا ارتأت أن القيام بهذا ضروري لتحقيق هدف التضخم المحدد بوضوح.
وبوسع المعارضين بطبيعة الحال أن يردوا بحجة "المنحدر الزلق". فالحظر الكامل هو الخط الوحيد الذي يمكن الدفاع عنه ضد الضغوط السياسية الرامية إلى وضع قواعد متزايدة التراخي. وقد تكون هذه الحجة مقنعة في البلدان التي شهدت تاريخا حديثا من التمويل النقدي المفرط ــ على سبيل المثال، البرازيل التي لا تزال تناضل لاحتواء التضخم وسط ضغوط سياسية لصالح التمويل بعجز ضخم. ولكن إذا كان بوسع البنك المركزي الأوروبي، أو بنك إنجلترا، أو بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أن يوافق بشكل مستقل على كمية قصوى من التمويل النقدي، فلن يستتبع ذلك حتما تآكل استقلاله.
الرئيس السابق لهيئة الخدمات المالية في المملكة المتحدة وعضو سابق في لجنة السياسة المالية في المملكة المتحدة، ورئيس مجلس إدارة معهد الفكر الاقتصادي الجديد.