تمر بلاد العالم بمحن عديدة تتداعى لها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والغذائية وغيرها من التداعيات التي لا تنفك إلا بعد سنوات وسنوات من انجلاء المحنة الأساسية؛ ليعود جسد البلاد أقوى وأكثر خبرة وتمرسا في مواجهة المحن المستقبلية الشبيهة.
ولعل ما يحدث في غزة وسائر الأراضي الفلسطينية المحتلة إحدى تلك المحن التي تتداعى لها سائر قطاعات الوطن العربي وبلاد الإسلام والعالم، ومن بين تلك التداعيات اكتشاف المستهلك العربي والمسلم والإنسان الحر في العالم أنه محاصرا بالبضائع ذات العلاقة بالكيان الصهيوني الغاصب والبلاد الداعمة له، وإن استهلاكه لتلك الضائع تزيد من بطش هذا العدو للإنسان وتضاعف قوته الغاشمة.
ومما لاشك فيه أن هذا الحصار المكمل لحصار أخواننا في غزة لا يمكن تصوره في الأوضاع الراهنة إلا مصيبة يعتقد كثيرون مننا أنه من الصعب التخلص منها دون معجزة من الله ترجع لأمة محمد عزتها وقدرتها على قيادة العالم، وتعود معه لتأكل من صنع يدها الذي افتقدته منذ مئات السنين لاسيما بعد سقوط الأندلس في عام 1492 وليس انتهاء بسقوط الدولة العثمانية في عام 1922.
وبالرغم من كل هذا السقوط إلا أن رحمة الله ظلت تحيط بهذه البلدان العربية والدول الإسلامية، إذ شهد القرن العشرين تحرر عديد منها من قبضة الدول المستعمرة كما شهد ذات القرن اكتشاف النفط في جزيرة العرب وعدد من الدول العربية والإسلامية لتعيش معه هذه الدول ودول الخليج العربي خاصة أكثر أيامها تقدما وبذخا والذي يوصف في العلوم الاقتصادية بالاستهلاك العالي والرفاه، وإن كانت هناك مخاوف كبيرة من استدامته بعد أفول النفط أو فقدان بريقه.
وبلغة الأرقام نشرت دول مجلس التعاون إحصائية تفيد بتخطي واردات دول مجلس التعاون من الأغذية 55 مليار دولار منها مليارا من الأغذية الجاهزة فقط، وفيما يخص الكماليات فإن دول مجلس التعاون الخليجي تعتبر من أكثر دول العالم إنفاقا عليها فعلى سبيل المثال لا الحصر تستحوذ الدول الست على 35% من مبيعات العطور في العالم و التي يقدر حجمها بنحو 3.5 مليار دولار في العام الواحد.
وإذا رجعنا إلى المنحة التي تمنحنا أياها هذه الأزمة فهي تكمن في العودة إلى السلع ذات العلاقة بالكيان الصهيوني أو المستوردة من الدول الداعمة له ولمجازره التي يقوم بها ضد البشرية والمنافية لحقوق الإنسان، وتحليها تحليا دقيقا ومحاولة إيجاد صناعة محلية بديلة لها خاصة إذا ما استطاعت دول مجلس التعاون أن تصنع من نفسها تكتلا اقتصاديًا متكاملًا يمتد أثره إلى المحيط العربي والمجتمع الإسلامي والعالم أجمع، ولعل سلسلة إحدى علامات المطاعم الشهيرة تعد مثالا جيدا لذلك إذ يوجد في دول مجلس التعاون ما يقارب ٦٠٠ فرعا مملوكة لعوائل خليجية معروفة وتدفع مبالغ منها مقطوعة للشركة الأم حسب عدد الفروع التي تمتلكها، و أصبحت لدى هذه الشركات الخليجية من الخبرة والمعرفة ما يمكنها من الاستغناء عن الشركة الأم لاسيما وأن معظم مشتريات هذه المطاعم وعملياتها تتم في الأسواق المحلية لدول مجلس التعاون وسلسة التوريدات الدقيقة المتعلقة بها أصبحت مدونة خاصة بملاكها؛ ولعل ما تفتقده هو وجود ماركة عالمية كاسم العلامة المشهورة يحتضنها، وهنا تكمن المخاطرة التي على ملاك هذه المطاعم تجاوزها مجتمعين ليصنعوا علامة خليجية خاصة بهم يحتضنها شعوب المنطقة أولا، وتنطلق من خلالهم إلى أسواق أوسع وصولا إلى العالمية، ويمكن أن يساهم المجتمع الخليجي في تكوينها من خلال طرح أسهم لها في البورصات المحلية مع يقيني أن لدى ملاك هذه المطاعم من المال ما يمكنهم من الاستمرار في تشغيلها إذا ما اطمئنوا لاستمرار مبيعاتهم بالشكل المعهود مع عدم إغفال العقود الموقعة بين الوكلاء المحليين والشركة الأم.
وأخيرا، إن توطين الصناعات وامتلاك المعرفة بمختلف أشكالها حلم ممكنا، وفي الوقت ذاته ليس من السهل تحقيقه؛ مما يستدعي تكاتف الحكومات والتجار والشعوب للسير في الركب ومن سار على الدرب وصل.
"وما استعصى على قوم منال اذا الاقدام كان لها ركابا"