حققت منطقة التعاون الخليجي نقلات نوعية في مجال التعليم خلال العقود القليلة الماضية، بدءاً من تأسيس أنظمة مدرسية فعالة ووصولاً إلى دعم المواطنين في مساعيهم للحصول على تعليم عالٍ يحقق تطلعاتهم ويتماشى مع الأهداف الاقتصادية الوطنية. وأدت الشراكات الاستراتيجية مع المؤسسات العالمية في هذا القطاع دوراً مهماً، لكن العنصر الأهم لنمو التعليم كان رغبة المواطنين بالتفوق عبر مجالات الدراسة والتحصيل المعرفي باختلافها وتنوعها.
واليوم يتميز الشباب العربي في مجال الإلمام بالتكنولوجيا والاطلاع على مفاتيحها والوصول إليها، وهو ما يغذي توقعاتنا المبنية على هذه المعطيات بأن تنجح منطقتنا في تحويل أنظمتها التعليمية وتطويرها تماشياً مع المتطلبات المتنامية والتغيرات التي سنشهدها خلال العقود المقبلة.
ويغيّر الذكاء الاصطناعي الأنظمة في مختلف أنحاء العالم، ولا يُستثنى التعليم من ذلك التوجه. وقد أكدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" أن الذكاء الاصطناعي يمتلك القدرة على حل مجموعة من أكبر التحديات في مجال التعليم، ويمكنه توليد ابتكارات مهمة في مجال التدريس والتعلّم وتسريع التقدم نحو تحقيق الهدف الرابع من أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، والذي يدعو إلى ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع. وهناك عدة تحديات بطبيعة الحال، ومن المهم تطبيق التكنولوجيا المبتكرة بطريقة عادلة لا تسبب المزيد من التفاوتات.
ونؤمن بأن دول منطقة الخليج تمتلك أفضلية في هذا المجال، كما أن أعداد النساء العربيات اللواتي يخترن التخصص في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات يواصل الارتفاع خلال السنوات الأخيرة، وفي كثير من الحالات يتجاوزن زملائهن من الرجال من حيث أعداد المسجلين في برامج التعليم العالي.
وفي الدول الغربية، يشكل الرجال الأغلبية بشكل ملحوظ في برامج وتخصصات علوم الكمبيوتر، لكن نساء منطقتنا تأخذن زمام المبادرة ضمن ذلك المجال، حيث تشكّلن 70 إلى 80 بالمائة من المسجلين ضمنه في كلٍ من دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وحوالي 40 بالمائة في الدول العربية ككل. ونشرت جامعة نيويورك أبوظبي هذه الإحصائيات، وأشارت إلى الارتفاع الهائل لتلك الأرقام مقارنة بمناطق أخرى من العالم، حيث تشكّل النساء في الولايات المتحدة مثلاً حوالي 15 إلى 20 بالمائة من طلاب علوم الكمبيوتر.
وتمتلك المرأة العربية الناشطة في مجال التكنولوجيا مؤهلات متميزة بفضل تعليمها ومعرفتها بالمنطقة، مما يمكّنها من قيادة التحول في طرق التعليم في بلادها، ومن ثم تجاوز ذلك لإرساء معايير ومنظومات قياسية عالمية المستوى تتطلع إليها دول أخرى.
وهذا هو الوقت الأمثل لتفاعل الحكومات والمؤسسات التعليمية والرواد في مجال التكنولوجيا مع المتخصصين والخريجين الجدد والطلاب في مجالات علوم الكمبيوتر والتكنولوجيا، لتبادل الأفكار حول مستقبل التعليم، خصوصاً فيما يتعلق بتوظيف الذكاء الاصطناعي ومستقبل التكنولوجيا.
ويمكن للذكاء الاصطناعي دعم الاحتياجات التعليمية بمختلف الطرق، وقد بدأت الصين مثلاً اختبار كاميرات مزودة بتكنولوجيا التعرّف على الوجوه في الفصول الدراسية لتحديد مدى انتباه الطلاب للدروس المقدمة. وقد تحسّن تلك التكنولوجيا فعالية أساليب التدريس إلى حد بعيد وتساعد المعلمين على استنتاج الأساليب المناسبة التي تدعم أهداف التعلم.
كما توجد فرصة لإثراء نماذج التعلم عبر تقديم تجارب غامرة للطلاب على كل المستويات عبر الواقع الافتراضي والمعزز. وهو اتجاه تعليمي ينمو بسرعة في مجال الرعاية الصحية، حيث يمكن لطلاب التمريض الآن رؤية موقف ما بعيون مرضاهم، فيما يتعلم طلاب الطب إجراء العمليات الجراحية عبر الدعم الافتراضي.
ويمكن للمؤسسات التعليمية في منطقة مجلس التعاون الخليجي الاستفادة من دمج المزيد من مكونات التعلم بالواقع الافتراضي والمعزز لمنح الطلاب مجموعة من وجهات النظر التي قد لا يستطيعون عادةً تجربتها في المدرسة أو الجامعة.
وخلال وبعد جائحة كوفيد-19، شهد العالم تصاعداً للتعلم عن بعد وعبر الإنترنت والتعلم المختلط. وقد يتيح ذلك فرصاً لا حصر لها للطلاب في منطقة الخليج، بالاستفادة من الدعم الواسع من الحكومات، بما يشمل خصوصاً المبادرات الاستراتيجية والشراكات مع رواد التكنولوجيا وقطاع التعليم.
كما أدى ابتكار التطبيقات والتلعيب في مجال التعليم إلى تغيير نوعي في مقاربة الطلاب للتعلم، ومع تزايد عدد الأطفال الذين يمكنهم الوصول إلى الأجهزة الذكية، انطمست الخطوط الفاصلة بين اللعب والتعلم. ويحمل ذلك المجال أيضاً فرصاً هائلة في المنطقة.
ويشكّل الوصول واسع النطاق إلى أدوات التكنولوجيا أساساً بنيوياً لتحسين تجارب التعلم في المنطقة. ودور الحكومات هو ضمان ذلك وتحفيز الابتكار التكنولوجي والتعليمي عبر كل المجالات، حيث ستدعم تلك المبادرات أهداف التنويع الاقتصادي وستولّد مزيداً من فرص العمل، إلى جانب توفير مصادر دخل جديدة أكثر استدامة.
عالمنا يمرّ بلحظة استثنائية، إذ نشهد نمواً وتحولات في النظم أسرع من أي وقت مضى. وقد غرست حكوماتنا ومواطنونا بذور النمو للمراحل المقبلة، لكن يجب علينا المحافظة على ريادتنا واستثمار مواردنا بحكمة. فشعوب المنطقة هي أعظم أصولها، والتخطيط الاستراتيجي وتسخير أفضل المواهب والموارد لدعم تعليم وتثقيف شبابنا بكل قدراتنا هو المسار الأسرع لتصميم المستقبل الذي تطمح إليه منطقتنا ومجتمعاتنا