الاحتياطي الفيدرالي وتفويضه الجديد المحفوف بالمخاطر

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٢/مايو/٢٠١٦ ٠٠:٥٧ ص
الاحتياطي الفيدرالي وتفويضه الجديد المحفوف بالمخاطر

ألكسندر فريدمان

لندن ــ ذات يوم، كتب أوسكار وايلد: "في هذا العالم، لن نجد سوى نوعين من المآسي. الأول أن لا يحصل المرء على ما يريد، والثاني أن يحصل عليه". مع اقتراب مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي من تحقيق أهدافه في ما يتصل بالاقتصاد المحلي، يواجه ضغوطا متزايدة تحمله على تطبيع السياسة النقدية. ولكن الاقتصاد المحلي لم يعد موضع الاعتبار الوحيد في صُنع سياسات مجلس الاحتياطي الفيدرالي. بل على العكس من ذلك، أقَرَّت السلطة النقدية في أميركا صراحة بتفويض جديد: تعزيز الاستقرار المالي العالمي.
أنشأ الكونجرس الأميركي مجلس الاحتياطي الفيدرالي عام 1913 بوصفه هيئة مستقلة بعيدة عن السياسة الحزبية، ومكلفة بضمان استقرار الأسعار المحلية وزيادة معدل تشغيل العمالة إلى أقصى حد ممكن. ثم توسع دوره بمرور الزمن، وانخرط بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، جنبا إلى جنب مع العديد من البنوك المركزية في البلدان المتقدمة، في سياسة نقدية غير تقليدية على نحو متزايد ــ التيسير الكمي، والتيسير الائتماني، والتوجيه المسبق، وما إلى ذلك ــ منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008.
الآن، أصبح غير التقليدي تقليديا. والواقع أن جيلا من المشاركين في السوق العالمية لا يعرفون سوى عالَم أسعار الفائدة المنخفضة (أو حتى السلبية) وأسعار الفائدة المضخمة اصطناعيا.
ولكن تفويض بنك الاحتياطي الفيدرالي المزدوج يظل ساريا. وفي حين كان خطاب بنك الاحتياطي الفيدرالي ميالا إلى التوفيق والاسترضاء مؤخرا، فإن أساسيات الاقتصاد الأميركي ــ وخاصة تلك التي يفترض أنها الأكثر أهمية بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي ــ تشير إلى حُجة واضحة لصالح المزيد من رفع أسعار الفائدة.
ولنتأمل أولا تفويض الاحتياطي الفيدرالي الخاص بتشغيل العمالة. فقد انخفض معدل البطالة إلى 5% فقط، وكان نمو الوظائف قويا وثابتا، وكانت طلبات إعانات البطالة على مسار نزولي واضح لعدة سنوات.
أما عن التفويض الخاص باستقرار الأسعار، فقد أثَّر انهيار أسعار النفط بشكل طبيعي على الأرقام الرئيسية على مدار العام الماضي، ولكن اتجاه معدل التضخم الأساسي (باستثناء عنصر الطاقة) يشير إلى أن بنك الاحتياطي الفيدرالي متخلف عن المنحنى. فقد بلغ مؤشر أسعار المستهلك الأساسي أعلى مستوياته بعد الأزمة، مع ارتفاعه بنسبة 2.3% على أساس سنوي في فبراير/شباط، ثم 2.2% في مارس/آذار.
وعلاوة على ذلك، من المرجح أن تتصاعد الضغوط التضخمية مع تقدم العام. ومع اقتراب نسبة ديون الأسر إلى أصولها الآن من مستويات غير مشهودة منذ تسعينيات القرن الماضي، اكتسب المستهلكون قدرة هائلة على زيادة اقتراضهم. وفي الوقت نفسه، من المنتظر أن يتضاءل ثِقَل التكلفة على التضخم مع استقرار أسعار النفط، كما تعني نعومة الدولار في الآونة الأخيرة المزيد من الضغوط التضخمية.
بيد أن هذا التقدم المحلي يضع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في موقف بالغ الصعوبة. فقد أصبح الاحتياطي الفيدرالي محصورا فعليا بين الاقتصاد الأميركي الذي يبرر على نحو متزايد تهميش السياسة النقدية، وبين ومصلحة الأسواق العالمية الهشة ــ حيث أكثر من 60% من المعاملات العالمية مقومة بالدولار ــ في المزيد من التوفيق والاسترضاء.
الواقع أن الرسائل التي تبثها الأسواق المالية تؤثر بشكل متزايد على عملية صنع القرار في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. وأي اقتراح بأن الاحتياطي الفيدرالي سوف يرفع أسعار الفائدة بشكل أسرع أو قبل الوقت المتوقع من شأنه أن يؤجج المخاوف من نشوء ظروف مالية أكثر تشددا، والاتجاه بقوة نحو العزوف عن المجازفة. فبعد سنوات عديدة من صعود أسواق الأسهم والأوراق المالية ذات الدخل الثابت، بتحفيز من السياسة النقدية التي يحاول بنك الاحتياطي الفيدرالي التخلي عنها الآن، فلن يكون هناك دعم تقييم للتخفيف من ردة الفعل. وفي غياب النمو العالمي القوي حقا، وهو أمر غير محتمل في الأمد القريب، تعتمد الأسواق المالية على سياسة نقدية شديدة التساهل لدعم الأسعار.
ومن منظور تفويضه المزدوج، لا ينبغي لبنك الاحتياطي الفيدرالي أن يهتم كثيرا بتقلبات السوق، حتى التقلبات بحجم تلك التي حدثت في شهري يناير وفبراير. ولكن كل إشارة مرسلة من بنك الاحتياطي الفيدرالي ورئيسته كان مفادها أن صناع السياسات مهتمون للغاية بهذه التقلبات على وجه التحديد. ولم يعمل ارتفاع الأسواق في أعقاب إبطاء الاحتياطي الفيدرالي لوتيرة زيادة أسعار الفائدة إلا على تعزيز الحلقة المفرغة بين احتمال رفع أسعار الفائدة الأميركية وتقلبات السوق العالمية.
والعواقب مقلقة. فإذا شعر بنك الاحتياطي الفيدرالي بأنه مدين بالفعل للأسواق المالية، فسوف ترتفع مخاطر زيادة أسعار الفائدة بشكل أكثر حِدة في المستقبل، مع تأخر بنك الاحتياطي الفيدرالي على نحو متزايد عن منحنى التضخم.
وبعيدا عن هذا، هناك اعتبارات مهمة أبعد أمدا. فنظرا للقاعدة المنخفضة، والحذر الواضح الذي يتبناه بنك الاحتياطي الفيدرالي، أصبح من غير المرجح أن تصعد أسعار الفائدة الاسمية كثيرا بفِعل الركود المقبل في الولايات المتحدة. ومع الافتقار إلى القوة اللازمة لخفض أسعار الفائدة، فإن فترة الركود التالية قد تكون أطول من المعتاد، وهو ما يستلزم المزيد من الاعتماد على السياسة النقدية غير التقليدية ــ حتى بما يتجاوز أسعار الفائدة الاسمية السلبية التي تلاحقها الآن أوروبا واليابان.
الواقع أن بن برنانكي سلف يلين، تناول مؤخرا مثل هذه الاحتمالات، وأبرزها احتمال الزيادة الدائمة في المعروض من النقود (أو ما يسمى أموال الهليكوبتر). وقد يتخذ هذا عِدة أشكال: التيسير الكمي مصحوبا بالتوسع المالي (على سبيل المثال، زيادة الإنفاق على البنية الأساسية)، أو التحويلات النقدية المباشرة إلى الحكومة، أو الاحتمال الأكثر تطرفا والمتمثل في التحويلات النقدية المباشرة للأسر.
لا تزال مثل هذه السياسات المتطرفة نظرية فحسب، وسوف يعمل تنفيذها في الأرجح على تحفيز التدقيق المتزايد الحِدة من قِبَل الكونجرس. ورغم هذا، تشير الضغوط الرامية إلى دعم الأسواق المالية العالمية والاقتصادات الخارجية الأخرى إلى السبب وراء طرح هذه القضية للمناقشة.
في ظل القرار الذي اتخذه مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في اجتماع إبريل/نيسان الذي اختتم للتو بالإبقاء على الأسعار دون تغيير مرة أخرى، فمن المنتظر أن تتفاقم المعضلة التي يواجهها هذا العام: فإما أن يواصل تطبيع السياسة النقدية بما يتماشى مع الأساسيات المحلية، أو يستسلم لضغوط الأسواق المالية العالمية. من المؤكد أن الخيار الأول سوف يفضي إلى مستقبل شديد التقلب؛ أما الثاني فمن شأنه أن يزيد من ترسيخ تفويض بنك الاحتياطي الفيدرالي الجديد ــ وهو التفويض الذي يقوض أي مظهر من مظاهر استقلال البنك المركزي.

ألكسندر فريدمان كبير الرئيس التنفيذي لشركة GAM Holding.