الأمان المالي العالمي

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٢/مايو/٢٠١٦ ٠٠:٥٦ ص
الأمان المالي العالمي

يانيس فاروفاكيس

أكان الانهيار المالي عام 2008 سببا في استحثاث المطالبات بإقامة نظام مالي عالمي يعمل على الحد من اختلالات التوازن التجارية، وتهدئة تدفقات رأسمال المضاربة، ومنع العدوى الجهازية. وبطبيعة الحال، كان هذا هو هدف نظام بريتون وودز الأصلي. ولكن الإبقاء على مثل هذا النظام اليوم أمر متعذر وغير مرغوب. كيف إذا قد يبدو البديل؟
أبرز مؤتمر بريتون وودز في عام 1944 الصِدام بين رجلين ورؤاهم: هاري دكستر وايت ممثلا للرئيس فرانكلين روزفلت، وجون ماينارد كينز ممثلا للإمبراطورية البريطانية المتلاشية. وليس من المستغرب أن تكون الغَلَبة في ذلك السياق لمخططات وايت، التي تأسست على الفائض التجاري الذي تجمع لدى الولايات المتحدة بعد الحرب، والذي استُخدِم لدولرة (التعامل بالدولار) أوروبا واليابان في مقابل إذعان الدولتين لتقدير الولايات المتحدة التام للسياسة النقدية. وقد وفر نظام ما بعد الحرب الجديد الأساس لأروع لحظات الرأسمالية ــ إلى أن فقدت أميركا فائضها وانهارت ترتيبات وايت.
الواقع أن السؤال المطروح بشكل دوري خلال قسم كبير من العقد الفائت واضح وصريح: فهل كانت خطة جون ماينارد كينز المهجورة لتصبح أكثر توافقا مع عالَمنا المتعدد الأقطاب بعد عام 2008؟
في أوائل عام 2009، اقترح تشو شياو تشوان محافظ البنك المركزي الصيني هذا ، معربا عن أسفه إزاء امتناع المجتمعين في بريتون وودز عن تبني اقتراح كينز. وبعد عامين، سُئِل دومينيك شتراوس كان، المدير الإداري لصندوق النقد الدولي آنذاك، عن تصوره للدور الذي يتعين على صندوق النقد الدولي أن يلعبه في فترة ما بعد 2008. فأجاب: "لقد تنبأ كينز قبل ستين عاما بالفعل بما هو مطلوب؛ ولكنه كان سابقا لعصره كثيرا. والآن أصبح الوقت مناسبا للقيام بهذا. وأظن أننا مستعدون للقيام به".
ولكن في غضون أسابيع سقط شتراوس كان من عليائه، دون أن يوضح ماذا كان يعني بـ"المطلوب". ولكن ليس من الصعب للغاية أن نتصور الخطوط العريضة لما قد يكون "المطلوب".
بادئ الأمر، سوف يعكس النظام الجديد رؤية كينز التي تتلخص في اعتبار ميل الرأسمالية الفطري إلى الوقيعة بين اقتصادات الفائض واقتصادات العجز سببا في تقويض الاستقرار العالمي. ذلك أن الفائض أو العجز ينمو أثناء فترة الرواج الاقتصادي، ويقع عبء التعديل والتكيف بشكل غير متناسب على عاتق المدينين أثناء فترة الركود، ما يؤدي إلى عملية الدين والانكماش التي تمتد جذورها إلى مناطق العجز قبل أن تثبط الطلب في كل مكان.
ولمواجهة هذا الميل، دعا كينز إلى تغيير أي نظام حيث تكون "عملية التعديل إلزامية للمدين وطوعية للدائن" والاستعاضة عنه بنظام يقضي بإلقاء عبء التكيف والتعديل على المدينين والدائنين بشكل متناظر.
وكان حل كينز يتخلص في إنشاء اتحاد المقاصة الدولي الذي تشترك فيه كل الاقتصادات الكبرى. وفي حين تحتفظ البلدان الأعضاء بعملاتها وبنوكها المركزية فإنها توافق على تقييم كل مدفوعاتها بوحدة محاسبية مشتركة، والتي أسماها كينز "البانكور" (bancor)، وسداد كل المدفوعات الدولية من خلال اتحاد المقاصة الدولي.
في البداية، يُقَيَّد لحساب كل بلد عضو لديه حساب احتياطي لدى اتحاد المقاصة الدولي مبلغ من البانكور يتناسب مع حصته النسبية في التجارة العالمية. وبعد ذلك، يقيد لحساب كل بلد عضو مبلغ إضافي من البانكور بما يتناسب مع صافي صادراته. وبمجرد إنشاء اتحاد المقاصة الدولي يبدأ عمله بفرض ضريبة على الفوائض المستمرة والعجز بشكل متناظر، لإنهاء آلية رد الفعل السلبي بين تدفقات رأس المال غير المتوازنة، والتقلبات، والطلب الكلي العالمي غير الكافي، والبطالة غير الضرورية الموزعة بطريقة غير متساوية في مختلف أنحاء العالم.
لم يكن اقتراح كينز خاليا من المشاكل. فقد تصور عملات ثابتة، الأمر الذي كان ليتطلب إنشاء مرفق محدود للسحب على المكشوف لصالح البلدان التي تعاني من عجز مزمن، وكان ليترتب عليه مساومات مستمرة بين وزراء المالية بشأن إعادة تحديد أسعار الصرف والفائدة. كما تشكل الضوابط المالية الصارمة، التي تمنح البيروقراطيين سلطة تقديرية مفرطة على التحويلات الرأسمالية، عيبا جسيما.
ولكن لا يوجد من الأسباب ما قد يمنع تصميم اتحاد المقاصة الدولي مع أسعار صرف متغيرة وبسيطة، وقواعد تلقائية تعمل على تقليص السلطة التقديرية للساسة والبيروقراطيين، في حين يحافظ على الفوائد المصاحبة لفكرة كينز الأصلية لوضع اختلالات التوازن العالمية تحت السيطرة.
وسوف يكون اتحاد المقاصة الجديد كما تصوره كينز. ولكنه سوف يستعين بعملة رقمية مشتركة ــ ولنقل الكوزموس ــ في محل وحدة البانكور المجردة، على أن يتولى صندوق النقد الدولي إصدارها وتنظيمها. وسوف يدير الصندوق هذه العملة على أساس دفتر حسابات رقمي شفاف موزع وخوارزمية من شأنها أن تضبط العرض الكلي بطريقة متفق عليها مسبقا وفقا لحجم التجارة العالمية، بما يسمح بوجود عنصر تلقائي مضاد للتقلبات الدورية يعمل على تعزيز المعروض العالمي في أوقات التباطؤ العام.
سوف تدير أسواق صرف العملات الأجنبية أعمالها كما تديرها الآن، وسوف يتباين سعر الصرف بين الكوزموس والعملات المختلفة على نفس النحو الذي نراه بين حقوق السحب الخاصة التابعة لصندوق النقد الدولي في مقابل الدولار واليورو والين والجنيه الإسترليني والرنمينبي. والفارق بطبيعة الحال هو أن الدول الأعضاء سوف تسمح في ظل اتحاد المقاصة الدولي الجديد للمدفوعات في ما بينها بالمرور عبر حساب الكوزموس التابع لاتحاد المقاصة الدولي الجديد لدى بنوكها المركزية.
وزير مالية اليونان الأسبق، وأستاذ الاقتصاد في جامعة أثينا.