التعافي الاقتصادي أمل الكثير من الشعوب للحد من حدة المعاناة الاقتصادية التي تولدت مع جائحة كورونا وتفاقمت مع الحرب في أوكرانيا ، ولا شك أنها تثمل مرحلة جديدة من الضغوط الاقتصادية على الحكومات والشعوب ، خاصة الذين لديهم اقتصادات هشة، و لم تتمكن من تدبير سياسات احترازية للتحوط من الأزمات غير المتوقعة ، وهى معاناة من نوع آخر يتحمل وقعها افراد المجتمع على مختلف شرائحهم وفئاتهم ،لأن ارتفاع أسعار المستهلك تؤدى إلى تآكل القوة الشرائية للأسر، ومن ثم تراجع الطلب وتأثر الشركات التي تدفها إلى تخفيض استثماراتها وتقليص عدد العاملين وتسريح حتى أصحاب المهارات والخبرات ، حتى تضاعفت الخسائر العالمية لتقترب من تريليون دولار في العام الحالي 2023، ولذلك سيشهد الاقتصاد العالمي تباطؤا للنمو وزيادة سرعة معدلات التضخم ، مما يؤدي بدوره إلى تآكل قيمة الدخول وإضعاف الطلب، وزياد المعناة ، خاصة مع تفاقم مشاكل سلاسل الإمداد والنقص الحاد المتوقع في السلع الأولية والمواد الغذائية ومدخلات الإنتاج المستوردة ، وتأثر الأسواق الصاعدة و الاقتصاديات النامية أو الناشئة من خروج التدفقات الرأسمالية ، ومن ثم عدم قدرتها على الحفاظ على حيوية أنشطة القطاع الخاص واستمراريتها بمعدلات عالية أو مناسبة ، خاصة مع سعي الدول الصناعية الكبرى للمحافظة على تفوقها ومصالحها ، وهي جادة في التخطيط لذلك عبر اجتماعات قمة العشرين في الهند ، التي تخطط للسيطرة الاقتصادية التي تعد الوجه الآخر للهيمنة السياسية باعتبار أنهما وجهان لعملة واحدة ، خاصة أن القمة تأتي في وضع صعب لاقتصاد أمريكا والكتلة الأوروبية ، التي وصفته كريستيان لاجارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي بأنه يشهد هبوطا خشنا، نتيجة لمعدلات التضخم غير المسبوقة مع ارتفاع سعر الفائدة ، الأمر يقود الاقتصاد إلى التباطؤ ، مع زيادة حالات الإفلاس التي بلغت إلى أعلى مستوى لها منذ عام 2015، والتي صاحبها سياسات نقدية متشددة تتجه إلى رفع أسعار الفائدة
، وعلينا أن ننتظر نتائج القمة وماذا ستقدم من تسهيلات ومساعدات للدول النامية أو دول الجنوب كما يطلق عليها، للتخفيف من معاناتها حتى تستطيع مواجهة الظروف الدولية والاقتصادية والتغيرات المناخية القاسية من حرائق الغابات والسيول والأعاصير والارتفاع الحاد في درجات الحرارة ،بل والزلازل أيضا ، وهل هناك إرادة ورغبة حقيقية في تقديم الدعم لهذه الدول ؟ لأن المخاوف في هذه الدورة قائمة نظرا للخلافات الظاهرة والتناقضات بين المشاركين في القمة وانقسامهم بين من يقف مع أوكرانيا أو في صف روسيا، والتي تنعكس بالتأكيد على جدوى القرارات، التي تصدر عن مجموعة العشرين كمنتدى للتعاون الاقتصادي والمالي بين دول وجهات ومنظمات دولية تلعب دورا محوريا في الاقتصاد والتجارة العالمية ـ حيث تمثل المجموعة 85 %من الناتج الاقتصادي العالمي و75 %من التجارة العالمية ، ولأنها قد تتخلى عن مسؤوليتها تجاه الدول النامية ، ما يدعونا للقول بأن المعاناة الاقتصادية ممتدة ومستمرة لعدة سنوات قادمة قبلنا أم أبينا، وليس هناك شك في ذلك ، لتصبح مسؤولية الحكومات ضخمة وضرورية لمعالجة هذه الأوضاع وعدم الاستكانة، وإلقاء مشاكلها على شماعة قمة العشرين ،لأنها قد تنحاز بشكل أو بآخر إلى مصالحها الآنية، المرتبطة بالأزمات العالمية التي انعكست على شعوبهم مؤخرا، ليصبح التحدي الأكبر أمام هذه الحكومات ليس في عملية التعافي وهى حتمية وضرورية -عندما تريد البقاء - بل في كيفية الوصول إلى مرحلة ما بعد التعافي وهى الأهم ، وأمامها الكثير من القضايا الشائكة التي تعاني منها ، ولا تملك مفاتيح حلها في ظل العجز التام عن تقديم المشروعات والاستثمارات الجديدة التي تولد فرص العمل الحقيقة ،والأخطر من ذلك أن تكون الحكومات نفسها من أسباب تعثر التعافي الاقتصادي ، من خلال الروتين والبيروقراطية المتجذرة في التعاملات في مختلف القطاعات الاقتصادية ، والتحول إلى سياسات الجباية من خلال الرسوم والضرائب والتفنن في فرضها بدون النظر إلى أبعد من واقع الأقدام ، لأن النظرة المستقبلية تتطلب بعد النظر وقياس حجم الموارد من هذه الرسوم مع الخسائر والمنافع المتوقعة على المدى البعيد، وما يزيد من معاناة القطاع الخاص هو غياب المسؤولية عن الرؤية المستقبلية لمؤسسات القطاع الخاص من قبل غرف التجارة والصناعة الغائب الحاضر في المشهد الاقتصادي ، لموجهة ما تتميز فيه الدول النامية من وجود عقليات لديها قدرات فائقة على صنع العراقيل والقيود التي تكبل انطلاق الاستثمارات والمشروعات الجديدة ، بل وتصنع عناصر مُنفرة وطاردة للاستثمار و للمستثمرين.