توظيف ثورة الجينوم للبشرية

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١١/مايو/٢٠١٦ ٠٠:٠٥ ص
توظيف ثورة الجينوم للبشرية

جيراردو خيمينيز سانشيز

بعد ثلاثة عشر عاما فقط من إتمام مشروع الجينوم البشري بنجاح، أصبحت قوة تطبيقات علم الجينوم في حفز الإبداع واضحة بالفعل. ورغم أن ثورة الجينوم بدأت تنطلق للتو، فإنها تحولت إلى وكيل تحويلي في الاقتصاد العالمي ــ وكيل يَعِد بجلب فوائد اجتماعية وبيئية بعيدة المدى.
في الولايات المتحدة وحدها، حققت الأموال العامة التي استثمرت في مشروع الجينوم البشري (3.8 مليار دولار أميركي) عوائد اقتصادية تقرب من تريليون دولار وأكثر من 300 ألف وظيفة. ووفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، سوف يصبح علم الجينوم عنصرا رئيسيا في العديد من القطاعات الاقتصادية، بما في ذلك الرعاية الصحية، والبيئة، والزراعة، وصحة الحيوان، والتكنولوجيا الحيوية، والطاقة البديلة، والطب الشرعي، والعدالة، والأمن. ومع استمرار وتيرة الإبداع في التسارع فمن المرجح أن تتحقق هذه النبوءة في وقت أقرب من المتوقع.
كانت المنطقة حيث اجتذبت الإبداعات المرتبطة بالجينوم القدر الأعظم من الاهتمام هي الصحة. فالآن نشهد تقدما سريعا نحو "الطب الشخصي" الحقيقي، حيث يُتَرجَم الحمض النووي للمرضى إلى رعاية طبية أكثر فردية، وتنبؤية، ووقائية.
وبالفعل، بدأت الدراسات الرامية إلى تحديد الجينات المرتبطة بالأمراض الشائعة ــ بما في ذلك بعض الأمراض التي تفرض أعباء صحية واقتصادية واجتماعية هائلة، مثل السرطان والسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية، والسِمنة ــ تعمل على تمكين الأطباء من استخدام معلومات الحمض النووي للمرضى لمصلحة الرعاية السريرية. كما يعمل الباحثون على تحديد التنويعات الوراثية التي تؤثر على مفعول الأدوية، مما يسمح باستخدام أكثر سلامة وفعالية للدواء في تخفيف الآلام وعلاج بعض أشكال السرطان، فضلا عن أمراض القلب والأوعية الدموية والأمراض النفسية.
ولدفع هذه التطورات خطوة أخرى إلى الأمام، تلاحق مبادرة الطب الدقيق، التي أطلِقَت في الولايات المتحدة العام الماضي، التجارب المبدعة مع الأدوية التي تستهدف أشكال سرطان البالغين والأطفال، فتقدم علاجات مركبة حسب الطلب، وتشحذ فهمنا لمقاومة الأدوية. وفي الأمد الأبعد، يهدف المشروع إلى إنشاء جماعة بحثية تتألف من أكثر من مليون متطوع يفترض أن تشكل بياناتهم الوراثية المشتركة، وعيناتهم البيولوجية، والمعلومات الخاصة بأساليب حياتهم، الأساس للطب الدقيق في ما يتصل بعدد كبير من الأمراض التي تصيب البشر.
بيد أن الرعاية الصحية ليست بأي حال المجال الوحيد الذي تأثر بثورة الجينوم. فقد حدثت تطورات مغيرة للقواعد في مجالات أخرى، وكثير منها تحمل إمكانات ثابتة بالدليل في التصدي لتحديات عالمية، مثل ضمان الأمن الغذائي وحماية البيئة في مواجهة النمو السكاني السريع على مستوى العالم، حيث من المتوقع أن يبلغ عدد سكان العالم 9.6 مليار نسمة في غضون 35 عاما.
إن انتقاء السمات عالية القيمة باستخدام علم الجينوم يعطي المزارعين وصناعة المواد الغذائية في العموم الأدوات اللازمة لإنتاج أغذية أكثر وأفضل. ففي جنوب شرق آسيا على سبيل المثال، أصبح الأرز الآن مقاوما للفيضانات. وأصبح إنتاج لحوم البقر، ومنتجات الألبان، وقطعان الخنازير أعلى كثيرا. كما يستفيد قطاع مصايد الأسماك والزراعة المائية المزدهر من الأنواع ذات الإنتاج الأفضل والقدرة الأعظم على مقاومة الأمراض والإجهاد.
علاوة على ذلك، من خلال توفير معلومات مفصلة بشأن التنوع البيولوجي والتفاعلات داخل النظم الإيكولوجية، يدفع علم الجينوم تطور استراتيجيات حماية البيئة الإبداعية.
وتُعَد الغابات مثالا أصليا في هذا السياق. فمن خلال توسيع فهمنا للسمات والصفات ذات القيمة التجارية العالية، مثل مقاومة الحشرات، ونوعية الأخشاب، ومعدلات النمو، والتكيف مع تغير المناخ، ساعد علم الجينوم في تحسين استدامة تربية الأشجار وإدارة الغابات. كما يستخدم الباحثون الكنديون والصينيون التحليل الجينومي للتجمعات الميكروبية التي تعيش في مستودعات النفط والغاز لتطوير عمليات حيوية جديدة من شأنها أن تجعل استخراج النفط والغاز أكثر رأفة بالبيئة، من خلال تعزيز استخراج الموارد، والحد من استخدام المياه والطاقة، والحد من الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري الكوكبي.
يبدو وعد الجينوم بلا حدود أو نهاية. ولكن إذا كان لهذا الوعد أن يتحقق، فلابد أولا من التغلب على تحديات رئيسية. ففي مجال الرعاية الصحية بشكل خاص يتعين علينا أن نستمر في توليد الأدلة الصلبة التي تؤكد قيمة نقل الطب الشخصي إلى الممارسات الروتينية. وعلاوة على ذلك، نحتاج إلى التحليلات الاقتصادية الدقيقة لتوجيه سياسات تغطية الرعاية الصحية وسداد تكاليفها. وفي المقام الأول من الأهمية، لابد من الإجابة على تساؤلات مهمة تحيط بخصوصية المرضى، والقدرة على الوصول إلى التكنولوجيا، وتسجيل النتائج العَرَضية، والتمييز، وتقديم المشورة، حتى يصبح بوسعنا وضع السياسات العامة المدروسة المتطلعة إلى المستقبل. ولتحقيق هذه الغاية، لابد من تعزيز الآليات الكفيلة بضمان المناقشة العامة الواسعة النطاق وتعزيز المشاركة.
من الواضح حتى في هذه المرحلة المبكرة أن علم الجينوم يوشك على تحويل العِلم والتكنولوجيا ومؤازرة موجة من الإبداع الواسع المدى. والآن حان الوقت لكن تبدأ البلدان والمناطق احتضان أبحاث وتكنولوجيات الجينوم، والبدء في ترجمتها إلى حلول فعّالة للتحديات العالمية والإقليمية والمحلية الكبرى.

أستاذ طب الجينوم، وأستاذ مساعد في علم الأوبئة في جامعة هارفرد