هل جُنّ جنون القائمين على البنوك المركزية؟

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٠٩/مايو/٢٠١٦ ٢٣:٣٦ م
هل جُنّ جنون القائمين على البنوك المركزية؟

موجمير هامبل

في الآونة الأخيرة، أصبح توجيه الانتقادات الحادة إلى البنوك المركزية في الدول المتقدمة آخر صيحات الموضة. ويتلخص خط الهجوم الرئيسي في شيء أشبه بالجملة التالية: "كان صناع السياسات النقدية مفرطي النشاط منذ عام 2008، فتجاوزوا سلطاتهم وألحقوا الضرر بالاقتصاد. والواقع أن هذا السرد ــ الذي يحظى على نحو شديد الغرابة بنفس القدر من الشعبية بين خصوم إيديولوجيين لا يمكن التوفيق بينهم، مثل التحرريين (أنصار الإرادة الحرة) والماركسيين الجدد ــ غير صحيح على الإطلاق.
ما فشل المنتقدون في فهمه هو أن البنوك المركزية الحديثة مسؤولة ليس فقط عن محاربة التضخم، بل وأيضا الحفاظ على استقرار الأسعار في الأمد البعيد. ومثلها كمثل درجة حرارة جسم الإنسان، فقد ترتفع الأسعار إلى مستويات أعلى مما ينبغي أو تنخفض إلى مستويات أقل مما ينبغي دون أن تتسبب في إحداث مضاعفات خطيرة. ويتعين على البنوك المركزية عندما تكافح الانكماش الناجم عن ضعف الطلب أن تكون على نفس القدر من "النشاط" الذي تكون عليه عندما تكافح التضخم المرتفع المدفوع بالطلب المفرط القوة.
ورغم أن المعركة متماثلة تماما، فإن تقييمها العام غير متوازن إلى حد محير، وخاصة في بلدان يتسم سكانها بالمحافظة المالية. وهذا يشمل بلدي جمهورية التشيك، وهي أمة من صِغار المدخرين حيث تظل نسبة القروض إلى الودائع أقل كثيرا من 100%. ويخشى التشيك التضخم، حتى برغم أنه بلغ أدنى مستوياته في 13 عاما وأن البنك الوطني التشيكي، الذي أتولى منصب نائب محافظه، كان يكافح لتجنب خطر الانكماش منذ عام 2013.
ومن الشكاوى الأخرى الشائعة حول سياسات البنوك المركزية منذ عام 2008 أنها تخلف تأثيرات تتصل بإعادة التوزيع. وهي تفعل هذا بكل تأكيد، ولكن ماذا في ذلك؟ إن أية تدابير ترتبط بالسياسة النقدية تعيد توزيع الثروة. ومن المؤكد أن رفع أسعار الفائدة يُرضي المدخرين، في حين يشكل خفض أسعار الفائدة نعمة للمقترضين. ويفضل المستوردون أن يكون سعر الصرف قويا؛ في حين يفضله المصدرون ضعيفا. ولكي تكون منطقية على الإطلاق، فإن السياسة النقدية لابد أن تخلف تأثيرات مختلفة على مجموعات مختلفة في أوقات مختلفة. وهذا ليس خطأ، بل هو جوهر السياسة النقدية.
ويضيف بعض المنتقدين أن البنوك المركزية تفشل في تحقيق أهداف التضخم التي تحددها على أية حال، ولهذا فإن نشاطها ليس بلا مبرر فحسب، بل وغير فعّال أيضا. وفي بعض الأحيان ربما ينجحون حتى في وضع هذه الانتقادات المتناقضة في نفس الجملة، وكأنهم يتهمون شخصا ما بإطلاق طلقات فارغة ولكنه يقتل بها الناس أو يصيبهم بجراح على نحو أو آخر.
الحقيقة هي أن البنوك المركزية في العالم المتقدم نجحت ــ بطريقة مبهرة حقا ــ في الحفاظ على استقرار الأسعار والقوة الشرائية للنقود أثناء وبعد الأزمة المالية العالمية. ولو لم تتدخل، فإن الاقتصاد في بلدان هذه البنوك المركزية كان لتواجه الانكماش الكارثي، فضلا عن انخفاضات كبيرة في أسعار الأصول، والانهيار التام للقطاعات المالية والحقيقية. ومن الواضح أن الإجراءات القوية كانت الاستجابة الصحيحة للأزمة (أما مدى إسهام البنوك المركزية في اندلاع الأزمة فهو أمر آخر).
في نظام يتسم بمرونة النقود التي لا تتمتع بقيمة حقيقية جوهرية، يتغير كم النقود بالضرورة بمرور الوقت إذا كان لقوة النقود الشرائية أن تظل ثابتة في عموم الأمر. وعلى هذا فإن المهم في الأمر هو استقرار الأسعار، وليس كم النقود. وتعكس الميزانيات العمومية المتضخمة للبنوك المركزية عمق المشكلة التي واجهتها العديد من الاقتصادات بعد عام 2008. ففي ذلك السياق، قامت البنوك المركزية بما كان ضروريا للحفاظ على القوة الشرائية واستقرار الأسعار. ولم يكن هناك "فرط نشاط" من جانبها؛ بل كانت تلبي تفويضها الدائم فحسب.
وإذا بدا هذا متغطرسا، فاسمحوا لي أن أقدم بعض الأدلة. إن الناس يصوتون بأموالهم. فإذا كانت القوة الشرائية لأموالهم تلقت ضربة بعد عام 2008، فمن الطبيعي أن يبحثوا عن بدائل لعملاتهم الوطنية (عملات أخرى، أو معادن ثمينة، أو أشكال بديلة للادخار). ونادرا ما حدث هذا في العالَم المتقدم.
صحيح أن البنوك المركزية في العديد من البلدان تعجز الآن عن تحقيق أهداف التضخم التي حددتها. (يحدد القائمون على البنوك المركزية عادة "درجة الحرارة" المثالية للاقتصاد بمعدل تضخم سنوي بنسبة 2% تقريبا). ولكن برغم أن هذا غير سار فإنه ليس مأساويا، خاصة وأن الانحدار في الأسعار يرجع جزئيا إلى صدمة العرض ــ وليس الطلب ــ في هيئة أسعار النفط الشديدة الانخفاض. وتعود هذه الصدمة بالفائدة على المستهلكين ولا تشكل تهديدا لاستقرار الأسعار، على الأقل في البلدان التي هي مستوردة صافية للنفط.
ولنتأمل هذا السيناريو. تخطط إحدى الشركات لزيادة مبيعاتها بنسبة 2%، ولكنها تتمكن من تحقيق نمو بنسبة 1% فقط لعامين متواليين. فهل تعتبر هذه الشركة فاشلة؟ كلا بكل تأكيد. ذلك أن أرباح الشركات الخاصة المخطط لها والفعلية من الممكن أن تختلف بسهولة بنحو 10% أو أكثر. وتعمل أغلب الشركات في بيئة أكثر بساطة في ظل متغيرات أقل مقارنة بالبنوك المركزية. فكيف للمرء أن يتوقع من البنوك المركزية أن تلبي دوما أهداف تضخم محددة، بصرف النظر عن الظروف الاقتصادية؟
ولكي أكون واضحا، لا أقول إن البنوك المركزية لا ينبغي لها أن تعمل جاهدة للاقتراب من أهدافها. بل ينبغي لها هذا بوضوح. وعلاوة على ذلك، لا ينبغي لها بكل تأكيد أن تسمح بزعزعة استقرار توقعات التضخم.
ولكن عندما يحكم الناس على البنوك المركزية، فإنهم يحتاجون إلى الحفاظ على حس التناسب السليم. كما يتعين عليهم حقا أن يكفوا عن التصريح بأمور غير صحيحة ــ على سبيل المثال أن يزعموا أن الترسانة السياسية لدى البنوك المركزية ليست قابلة للنضوب فحسب، بل إنها تكاد تكون ناضبة بالفِعل. الحق أن صناع السياسات النقدية لديهم وفرة من الأسلحة وذخيرة لا تنتهي تحت تصرفهم. وتتباين عيارات هذه الأسلحة ودرجات فعاليتها في أوقات مختلفة. فليس كل سلاح مناسب لكل مناسبة أو كل اقتصاد. ولكن قدرة البنوك المركزية على خلق وتدمير الأموال غير محدودة نظريا.
نائب محافظ البنك الوطني التشيكي.