الركام والخراب في حلب

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠٨/مايو/٢٠١٦ ٠٠:٣٧ ص
الركام والخراب في حلب

احمد المرشد

ونحن نعترف بأننا قرأنا جميعا قصة امرأة عمورية المسلمة التي استنجدت بالخليفة المعتصم من بطش حاكم الروم، حيث حرك المعتصم على إثرها آنذاك جيشه لنجدتها لتصبح مثلا لمن يستنجد أحدا للمساعدة، فكانت صيحة المرأة في السوق وشرطة الروم تسحلها إلى السجن:" وامعتصماه وامعتصماه" خير ذكري للاستنجاد في زمن عزت فيه الكرامة.
نتذكر قصة المرأة العمورية ونحن نعيش مأساة مدينة حلب السورية التي لم تجد حتي الآن معتصما تستتنجد به من بطش الصراع السوري والذين يدعمونه في روسيا وإيران..حلب التي احترقت واحترقت مساجدها ومشافيها، لدرجة بلغت من البؤس أقصاه عندما غابت عنها صلاة الجمعة وخطبها في واقعة لم نسمع عنها من قبل منذ نشأة الإسلام..إنها حلب أقدم مدينة في العالم ، وثانى أكبر المدن السورية، ورمز التعايش المذهبي والعرقي والديني في سوريا إذ كان يقطنها عرب من المسلمين السنة، مع أقلية سنية كردية وتركمانية، إلى جانب أكبر ‘طائفة مسيحية فى سوريا، وأقليات شيعية وعلوية.

وللأسف، فقد احترقت حلب بسبب بطش الصراع السوري الذي قتل المئات من أطفالها ونسائها وشيوخها في قصف جوي وبري تقشعر له الأبدان، فلم يحرك العالم ساكنا لنجدة سكانها من ويلات الحرب المدمرة وانقاذهم من عذاباتهم اليوميـة، وخرج علينا جينادي جاتيلوف٬ نائب وزير الخارجية الروسي٬ ليعلن بملء فيه ، أن موسكو لا تنوي ممارسة الضغط على نظام الأسد بخصوص ما يجري في حلب٬ واصفا ما يجري هناك بأنه "تصٍد للإرهاب"! . ثم يواصل هذا الشخص هذيانه ليؤكد في تحد للمجتمع الدولي برمته أن بلاده لن تمارس أي ضغط علي سوريا لوقف مذابحها في حلب حتي لو لو كانت نتيجة هذا الموقف إعلان فشل العملية السياسية في جنيف. وعندما يضغط عليه الصحفيون ويستفسرون منه عن تعليقه على وصف نائب الأمين العام للأمم المتحدة الوضع الإنساني في سوريا بأنه يشهد "تدهورا كارثيا"٬ قال جاتيلوف: إن "هذا الكلام يدعو للدهشة"٬ معربا عن قناعته بأنه لا يجوز الآن بأي شكل من الأشكال تصنيف الوضع الإنساني في سوريا بأنه كارثي أو يهدد بتصاعد حدة النزاع!.
هذا الدبلوماسي الروسي الذي تعد بلاده شريكا رئيسيا في مأساة الشعب السوري بدعمها العسكري والمالي لنظام دمشق الغاشم، يعتقد أنه ليس من اللائق وصف الوضع الإنساني في سوريا بـ"الكارثي"، فما عساها موسكو تري حلب وهي تحترق يوما بعد يوما ويموت شعبها بالمئات وتنهار مساجدها ومشافيها بمن فيها من مصلين ومرضي ومسعفين وأطباء.

ونزيد من الشعر بيتا، لنضيف الي مآسينا ومأساة الشعب السوري الذي تئن له كل أفئدتنا ومآقينا، عندما يخرج مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والأفريقية٬ أمير عبد اللهيان٬ ليدافع عن تدخل بلاده في سوريا ويعترف بأن الوجود العسكري منع سقوط نظام بشار الأسد. ثم يوجه هذا الشخص رسالة تحد لنا وللعالم والأمم المتحدة بقوله : إن الدعم العسكري الإيراني للنظام السوري يؤكد جدية طهران في دعم الحلفاء وعدم التخلي عنهم". ثم يزايد عبد اللهيان علي الجميع ويدعي أن بلاده تدعم الشعب السوري في "الإصلاحات السياسية" ، ليتهم "لاعبين" آخرين بالتحريض علي إسقاط النظام السوري عبر منع الشعب السوري من مواصلة مطالبه الإصلاحية.

هكذا تري موسكو وطهران الموقف في حلب من زاوية خاصة جدا، زاوية تنكر علي الشعب السوري الشقيق حقه في العيش في سلام واستقرار ووئام، حقه في أن يذهب للمساجد لإداء شعائر صلاة الجمعة، وحقه في الحصول علي علاج آمن في المشافي والمصحات التي لم تنج من قصف القوات السورية بحجة تحرير المدينة من قوات المعارضة.

حقا..أنها ترهلات موسكو وطهران ، حيث لم يرى المسئولون هناك صور القتلي والجرحي بالمئات في حلب خلال الأيام الفائتة، فلم تخل صحيفة أو نشرة أخبار من هذه الصور المفزعة التي حركت الأفئدة في صدورنا ولكنها لم تحرك ساكنا في روسيا وإيران، ويبدو أن القائمين علي السلطة هناك استعذبوا رؤية الدماء في بلادنا ولم يعد تزعجهم مشاهد القتل والموت والجراح ورائحة الدماء التي تسيل كل يوم في مدينة سورية وكانت حلب آخرها وخير مثال علي نوم العالم في نوبة نوم طويلة للأسف.

ويحضرني هنا رسما كاريكاتوريا في صحيفة مصرية صور بحق مأساة حلب التي لم تحرك ساكنا في دمشق وطهران وموسكو وحتي العالم الذي اكتفي بالإدانات وبيانات الشجب والاستنكار، فقد رسم الكاريكاتور صورة علي يمينها حرائق تشتعل بقوة وتندلع منها اللهب بغزارة، وعلي اليسار شخص يقول لزميله :"لأ مش عندنا..هذه حلب..بس إحنا بنعمل نفسنا مش شايفينها".

نحن لا نلوم موسكو وطهران فقط لدعمها المعلن والمسكوت عنه للنظام السوري، فثمة لوم يطال أيضا واشنطن التي لم تحرك ساكنا لانقاذ أهل حلب، فالأمريكيون الشريك الرئيسي في مفاوضات جنيف لم يلوموا شريكهم الروسي علي فعلته، ولم يوبخوا حليفهم "القديم الجديد" في المنطقة ونعني به إيران، فالعالم كله بما فيه الأمريكيون شاهدوا صور القصف المدمر لمستشفى القدس في حلب في حادث مأساوي شهد مقتل ما لا يقل عن 50 من المدنيين، بمن فيهم أطفال ومسعفون وأطباء ، ولم يكن هذا مجرد حادث عرضي في سوريا، فكل مدنها تتعرض تقريبا بصورة شبه يومية لمثل هذا الأحداث الدامية التي أدت لمقتل نحو 300 الف شخص تقريبا منذ مارس 2011.. ولكن الغريب في الأمر أن مأساة حلب لم تكن مفاجئة للغرب ، حيث أعدت لها دمشق العدة وأعلنت قبل أسابيع خطة أسمتها "تحرير حلب" لاستعادة الجانب الشرقي من المدينة الذي تسيطر عليه المعارضة، بمساعدة الشركاء الروس، بحسب تعبير رئيس وزراء نظام الأسد.

اقترب قصف حلب لمدة إسبوعين، ولم يتحرك مسئولو البيت الأبيض في قلب واشنطن، بحجة أن حلب لم تدرج في اتفاق هدنة 27 فبراير الفائت والذي لم يشمل أيضا دمشق واللاذقية.. المفاجأة التي تخيفنا وتزعجنا من حيادية الشريك الرئيسي في مفاوضات جنيف تتمثل فيما قاله المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، جون كيربي، بينما كان عمال الإنقاذ يسحبون الأطفال من بين ركام جناح الأطفال بمستشفى القدس: "أعتقد بأننا لا نزال نرى أنها (هدنة فبراير) ما زالت قائمة إلى حد بعيد".

ولعلي هنا اقتبس تعبيرا استخدمته افتتاحية صحيفة "واشنطن بوست " الأمريكية في التعليق علي كلام جون كيربي، حينما كتبت :" سياسة الولايات المتحدة في سوريا تطورت إلى روتين مقزز". وكان موقف الصحيفة الأمريكية أشد جرأة من ساكني البيت الأبيض ومقر وزارة الخارجية الأمريكية عندما طالبتهم جميعا بضرورة إعلان "الخطة باء" التي طالما وجعوا دماغنا بها في حال فشلت هذه المفاوضات.

أفلا تكفي هذه المذابح في حلب ضرورة استدعاء "الخطة باء" التي تحدث عنها الأمريكيون كثيرا في وقت تسخر روسيا والنظام السوري من كل اتفاقات الهدنة ووقف اطلاق النار، وتواصل القوات السورية مدعومة بعسكريين روس وإيرانيين قصف المدنيين في حلب وغيرها من المدن السورية الموبوءة. وعلي ما يبدو أن ما تصفه واشنطن بـ"الخطة باء" أمرا وهميا، لأنها حتي الآن تماطل في تطبيقها، وكانت الخطة كما أعلن من قبل تتضمن إمداد المعارضين السوريين بأسلحة أقوى، يمكن أن تشمل صواريخ قادرة على إسقاط الطائرات والمروحيات السورية. ووفقا لتقارير صحفية أمريكية، شاعت على نطاق واسع أنباء مفادها أن وزير الخارجية الأمريكية جون كيري يضغط من أجل مزيد من المساعدات للمعارضة كسبيل لكسب ورقة ضغط على نظام الأسد وروسيا. غير أنه، كما هو الحال على امتداد الحرب الأهلية السورية، تم تجميد التحرك في هذا الاتجاه من قبل الرئيس باراك أوباما ، من منطلق خشيته أن يزيد التدخل الأمريكي الوضع سوءا، فلا يزال يرفض أي خطوة من شأنها تحسين الأوضاع في سوريا واكتفي بتوجبه بذاءاته وسخريته من العرب والأوروبيين والمرشحين للرئاسة الأمريكية، فهذا الذي استطاع أوباما فعله منذ مجيئه للقاهرة عقب توليه الرئاسة وتوقعنا منه أن يكون الناصر الأمريكي لقضايانا ، ولكن ما عساه فعل، بل آتانا بالمصائب وما كنا متوقعين منه هذا.

ماذا عسانا نفعل بعد أن غابت أصوات الخطباء عن منابر مساجد مدينة حلب في صلاة الجمعة٬ فيما بقيت أصوات وصور العائلات المفجوعة برؤية جثث أقربائها شاخصة أمام عيون السوريين وأبناء المدينة الذين باتوا يعّدون أيامهم المتبقية بالساعة والدقيقة. ولنا أن نشارك كل مواقع التواصل الاجتماعي التي نشرت هاشتاج "حلب تحترق" و"حلب تباد"، و لكن مهما فعلنا وكتبنا وتعاطفنا ، فلن يعيد تضامننا وحزننا وتعاطفنا مهما كان عمن غاب من أبناء حلب ولن يعيد إليهم أرزاقهم التي حولها طيران النظامين السوري والروسي إلى ركام٬ من دون أن يستثني حتى المستشفيات والمراكز الطبية.. إنها مدينة حلب التي يوصف بها جمال المرأة (مثل جمال الحلبية) تلك المدينة التي تعرضت لأبشع حملة عسكرية في تاريخها في عملية إبادة حقيقية لإنسانيتها وتاريخها وموقعها الاستراتيجي، فالمدنية أًصبحت مثل المدن الأوروبية إبان الحرب العالمية الثانية ، فأينما ذهب المرء سمع دوي انفجار قذائف الصواريخ والغارات وهدير الطائرات، فكانت بحق مثل "مدينة الموت" في غياب تام عن إنسانية العالم.

إنها حقا مأساتنا، فنحن نري حلب تحترق وندعي أننا لا نري حريقها أو لهيبها الذي بالتأكيد سيأكلنا فيما بعد ما لم نسارع جميعا في انقاذ الشعب السوري..عندما استنجدت المرأة العمورية بالمعتصم هب لنجدتها وفك أسرها، واستنجدت حلب بنا والعالم، ولكن ما عسانا نفعل، لقد اكتفينا بالكلام وهذا أقل الشرور.

كاتب ومحلل سياسي بحريني