الرَّجُلُ في شِعْرِ المرأة

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠٨/مايو/٢٠١٦ ٠٠:٣٣ ص
الرَّجُلُ في شِعْرِ المرأة

زاهي وهبي

إذا كانت المرأة مصدر الهام ومنجم ابداع للفنان عموماً وللشاعر على وجه الخصوص، هل الرجل يمثل للمرأة المبدعة حالة مماثلة أم أن الأمر يختلف باختلاف الجنسين وطبيعة كلٍّ منهما وحساسيته ونظرته للآخر؟

بدايةً لا بد من التذكير بأن المرأة قد تعرضت على مدى قرون طويلة للقمع والكبت على المستويين الفردي والجماعي تحت ذرائع مختلفة اخترعها المجتمع الذكوري الذي يمارس أبوية مستبدة ليس فقط على النساء، بل أيضاً على كل من وما استطاع اليه سبيلاً، لكن ما من شك في أن المرأة قد نالها النصيب الأكبر من التهميش والاقصاء والقمع حتى بات صوتها هامِساً خفيضاً غير مسموع في أغلب الأحيان.

رُبَّ قائل إن الأمور اختلفت والنساء نلن الكثير من حقوقهن في المجتمعات المتقدمة، وهذا صحيح، لكن بشكل عام لا تزال السلطة الذكورية تقود العالم، وسبقت لنا الإشارة الى أن النساء اللائي وصلن الى مواقع القرار مارسن الحكم بعقلية ومفاهيم ذكوريّة، لِنتذكر ألقاباً مثل المرأة الحديدية والفولاذية وأخت الرجال وغيرها من صفات تطلق على بعض النساء الحاكمات، وكأن المرأة لا تستطيع تدبُّر الأمور كإمرأة لا كرجل. لعل مقولة أم أبي عبدالله الأحمر (عائشة الحرة) حين خاطبت ابنها آخر الحكّام المسلمين في الأندلس الذي تنازل عن غرناطة للإسبان قائلة له: "إبكِ كالنساء مُلْكاً لم تحافظ عليه كالرجال" تختصر وتكثف تلك النظرة المقيتة ليس للرجل تجاه المرأة بل للمرأة تجاه نفسها، علماً أن تاريخنا السحيق يكتظ بنساء أعْلَيْنَ شأن الْمُلْك مثل بلقيس وزنوبيا وأليسار وسواهن مِن نساء حفرن أسماءهن في صخر الزمان.

ما علاقة كل هذا بسؤالنا أعلاه؟ لقد انعكست النظرة الذكورية الدونية تجاه المرأة والكبت التاريخي لها على علاقتها بنفسها ومشاعرها وأفكارها، وبالتالي على نصِّها الابداعي الذي يبدو محكوماً بكثير من المحرَّمات والموانع والخطوط الحمراء. لئن عدنا الى بدايات تكوُّن الوعي البشري لوجدنا في المخطوطات البدائية الأولى تعبيراً متماثلاً لدى الجنسين، تلك كانت الفطرة والسليقة السليمة قبل أن تتشوه وتُحرَّف بفعل ما تراكم عبر الزمن، فيما نجد في الفترات اللاحقة أن نصّ المرأة المبدعة راح يتقلب بتقلُّب الحقب والمراحل، حين تكون الأمة منتصرة واثقة من نفسها تكون المرأة أكثر تحرراً وحرية وجرأة في التعبير عن مكنوناتها، أما حين تكون الأمة مهزومة مغلوبة منشغلة بالشقاق والفتن تغدو المرأة مقموعةً مسلوبة الحقوق بما فيها حرية التعبير والبوح بمشاعرها. بهذا المعنى تختلف صورة الرجل في قصائد المرأة باختلاف المراحل والحقبات، ليس فقط لأن موقعه بالنسبة اليها يتغير ويتبدل، بل أيضاً لأن شكل التعبير وسقفه يختلفان، لو أخذنا نماذج من شعر النساء في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن العشرين لوجدنا أن المرأة الشاعرة كانت أكثر جرأة في الإفصاح عما هي عليه اليوم، لماذا؟ لأن تلك المرحلة كانت تضج بأحلام التحرر والتغيير والعدالة والمساواة، أما اليوم فعادت الأمة للانكفاء على نفسها، غارقةً في بحور الدماء ومستنقعات الفتن الطائفية والمذهبية والجهوية، حين أدى فشل التيارات التقدمية والأنظمة الحاكمة الى صعود تيارات التطرّف والتكفير والتحريم والإلغاء والاقصاء، واشتداد الأصوليات الدينية التي فرَّغت الدين من جوهره الروحي باعتباره ما كان الا لأجل الانسان، جاعلة الانسان مجرد أضحية في سبيل الصنم الجديد، أي الدين المُفرغ من مضامينه الإيمانية الروحية الحقيقية التي ترى في الانسان أحسن تقويم، وفي إتمام مكارم الأخلاق هدف الرسالة الأسمى.

هل يمثِّلُ الرجل ملهماً للمرأة الشاعرة كما تمثِّلُ المرأة ملهمة أولى للرجل الشاعر؟ ليس بالضرورة أن نقع على تطابق كلِّي بين "الالهامين"، اذ أن حساسية المرأة ونظرتها للعالم مختلفة عن حساسية الرجل ونظرته للعالم، صحيح أنهما ينطلقان من الجذر نفسه، وهو الانسان، لكن لكلٍّ من الجنسين تكويناً نفسيًّاً وشعوريّاً خاصاً به.

بهذا المعنى يغدو استلهام المرأة للرجل مختلفاً عن استلهامه لها، ولو أضفنا العوامل التي ذكّرناها أعلاه لَتَضاعَفَ الاختلاف أكثر. ثم أنني من المؤمنين بأن تكوين المرأة باعث ومحرِّض على الابداع أكثر من تكوين الرجل، أو لنخفِّف حدة هذا الرأي ونقول إن تكوينها أقرب لحالة الخلق التي يعيشها كلُّ مبدع، اذ لا يستوي في هذا الأمر مَن تتكون الحياة في أحشائها مع زارع البذرة فقط. هل يمكننا مثلاً مقارنة التربة الخصبة بباذر حنطته فيها؟ قد يبدو السؤال مجحفاً بحق الرجل، لكننا حقاً لا نفاضل بينه وبين شريكته في وراثة الأرض، بل نشير الى مكامن الاختلاف، والاختلاف بينهما لا يعطي أفضلية لأحدهما على الآخر، مأزق الرجل أنه سعى ويسعى منذ بدء الخليقة لتأكيد أفضليته على المرأة، وهذا ينافي الفطرة نفسها، ويجعل الحياة مختلَّةً كَحالِها اليوم.

كيف تكتب المرأة الرجل، وأي رجل تكتب؟ هذا ما سوف نحاول الإجابة عليه الأسبوع المقبل.