بقلم : محمد محمود عثمان
تحولات اقتصادية كثيرة طرأت على اقتصاديات العالم أجمع بعد انتصار السادس من أكتوبر 1973،أول معركة حربية عربية تنتصر فيها الجيوش العربية مجتمعة - منذ هزيمة 1948مرورا بنكسة1967، وللمرة الأولى أيضا تنتصر فيه الأمة العربية اقتصاديا،بعد أن تجلت فيها الأخوة العربية بكل معانيها - التي نفتقدها في مواقف كثيرة متعلقة بحاضر ومستقبل الأمة العربية ، ولعنا أن نعي دروسها الآن حتى ننهض باقتصاداتنا، في الوقت الذي يمر فيه العالم بأزمة اقتصادية ، والاستفادة من تداعيات أزمة أوكرانيا الاقتصادية والسياسية ، التي قد تتولد من خلالها قوى دولية جديدة في إطار الصراعات الدولية القائمة ، بعيدا عن هيمنة القطب الواحد والانفراد بالقرارات ، حتى يمكن أن نفرض حلولا لقضايانا ومشاكلنا المزمنة التي تسببت في تأخرنا اقتصاديا عن الآخرين ، ونجعل من بلادنا العربية كتلة اقتصادية ذات وزن عالمي ، مع ظهور قناعات - أو أمنيات- بضرورة تحقيق نوع من التكامل العربي في المجالات الاقتصادية ، بعد أن ظهر للجميع ضعف الإمكانيات الاقتصادية العربية غير النفطية، خاصة بعد أن نجح سلاح النفط العربي في التأثير الإيجابي على مواقف الدول الكبرى وعلى مجريات حرب السادس من أكتوبر، بفضل جهود الدول الخليجية والعربية وفي مقدمتهم الملك فيصل ملك السعودية والشيخ زايد رئيس دولة الإمارات العربية و الرئيس الجزائري هواري بومدين عند أخذ قرار حظر تصدير النفط ، ما كان له الأثر الكبير في تغيير موازين القوى في ذلك الوقت ، وأدى إلى الطفرة الكبيرة في أسعار النفط عالميا واستفادة الدول العربية من العائدات النفطية التي تسببت في نقلة نوعية اقتصادية غير مسبوقة غيرت وجه الحياة في هذه المجتمعات ،بعد ارتفاع عائدات النفط من 14 بليون دولار في عام 1972 إلى 213 بليون دولار في 1980 ، وبذلك تضاعفت الأسعار في أقل من 10 سنوات من الحرب بنحو 15 ضعفا ، ولذلك فهذا النصر الاقتصادي هو الأول في العصر الحديث الذي صنع النصر العسكري للعرب وللمسلمين،والذي تبعه توجه الاقتصاد العربي من الشرق إلى الغرب ، بعد أن استفاد الاقتصاد العربي من مضاعفة أسعار النفط لعدة مرات خلال عام واحد ، مما ساعد الدول النفطية على بدء مرحلة من الرفاه على المستويات الاجتماعية والاقتصادية، مع ازدهار مشاريع التنمية فيما أطلق عليه حقبة الطفرة النفطية في السبعينيات، وكذلك كان في مقدمة هذه التحولات الاقتصاد المصري الذي تحول من النظام الاشتراكي إلى الانفتاح الاقتصادي الذي رفع شعاره الرئيس السادات في اعقاب السادس من أكتوبر73 ، ولكن لم يتحقق هذا الانفتاح بالصورة الصحيحة ، حيث تحول إلى بوابة مفتوحة للاستيراد ، الذي أثر على قدرة مشاركة القطاع الخاص في الإنتاج وفي المشروعات الصناعية الأساسية ،وعلى الصعيد العالمي فاقمت حرب أكتوبر73 من حدة الأزمة التي تعرضت لها أمريكا ودول الغرب ، بعد الآثار الاقتصادية السلبية على المستهلكين في كل دول العالم ، حتى أن الحكومة البريطانية أفرجت عن مستندات في عام 2004 ،توضح أن الولايات المتحدة « فكرت في الاستيلاء على حقول النفط في الخليج «، بعد حظر تصدير النفط العربي الذي أدى إلى انخفاض قيمة الدولار كاحتياطي نقدي عالمي ، وما تبعه من قفزات في أسعار النفط عالميا - وإن كانت استولت على النفط العراقي في التسعيينات -بعد أن أحدث قرارحظر النفط صدمة في الغرب وحالة من الاضطراب في الدول المستوردة للنفط، وساد الذعر والهلع بين المستهلكين وخاصة في أوروبا، وتم اتخاذ اجراءات لتقنين توزيع وقود السيارات، وشوهدت لأول مرة طوابير السيارات تتجمع أمام محطات البنزين في عدد من الدول الأوروبية في انتظار دورها، تماما كما يحدث ذلك السيناريو الآن بعد منع روسيا الغاز عن أوروبا لتفرض قوتها وتحل مشكلاتها الحدودية مع أوكرانيا، وفي محاولة إحياء روسيا كقوة عظمى كما كانت في ظل الاتحاد السوفيتي القديم.
وكان أكبر ارتفاع للأسعار في أوروبا من تأثير الحظر، ولا سيما في انجلترا حيث أسهم الحظر مع إضراب لعمال المناجم بسبب أزمة الطاقة خلال فصل الشتاء 1973-1974 وكان عاملا رئيساً في تغيير الحكومة ، ويتكرر اليوم هذا المشهد بعد استقالة رئيسة الوزراء البريطانية «ليز تراس « بعد 45 يوما فقط من توليها الوزارة ،كما تحول الاقتصاد الياباني بعيدا عن النفط والصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، إلى ضخ الاستثمارات في الصناعات الإلكترونية ، ومن هنا فإن تجربة الحظر النفطي أثناء السادس من أكتوبر 73 كانت تحديا مباشرا لهيمنة القوة الأميركية والغرب، و قدمت نموذجا فريدا للتضامن العربي وتوظيف كل الطاقات العربية اقتصاديا وسياسيا واستراتيجيا لصالح القضية الفلسطينية، كما أدت الى رفع مكانتنا كعرب على خريطة النظام العالمي مع اكتساب احترام وتقدير القوى الدولية على نحو لم يكن قائما من قبل ، لذلك بعد نحو خمسة عقود على تجربة حظر النفط العربي في عام 1973، ومع وجود أزمة الطاقة في دول الغرب وإمريكا الآن ،لابد أن ندرك حقيقة أن بيدنا ورقة مساومة وأداة ضغط عربية قوية ، لخدمة القضايا العربية من جديد، ولدعم مبادرة السلام العربية للوصول إلى استقرار وسلام نهائي وعادل يدعم التنمية الاقتصادية في المنطقة، ويبقى السؤال هل نحن قادرون أو نملك الإرادة للاستفادة من هذه التجربة في المستقبل المنظور؟