بقلم: علي بن راشد المطاعني
شكل إعلان هيئة الإذاعة البريطانية BBC بإغلاق فرعها العربي صدمة في الأوساط العربية بعد أكثر من 84 عاما من سماعها في أنحاء العالم العربي كغيرها من المحطات التي أغلقت والتي ستغلق، وذلك نتيجة لتحديات مالية لتمويل الإذاعة التي تبث بأكثر من 40 لغة عالمية، وتقليص 382 وظيفة في المحصلة التقشفية، والإنتقال إلى البث رقميا لمواكبة التحولات في تلبية رغبات المتلقين نتيجة لتطلع المزيد من المتابعين إلى المنصات الرقمية الجديدة، وكذلك تماشيا مع التطورات الحديثة في التناول الإعلامي والتأثير على الجماهير، في واحدة من أكبر التحولات الإعلامية في هذا العقد.
المحصلة تشير إلى تحويل 41 خدمة إخبارية تقدمها الهيئة إلى المحتوى الرقمي، الأمر الذي يعكس التوجه الحداثي في صناعة الإعلام وحاجته إلى إستثمارات كبيرة لم تستطع الدول والشعوب الوفاء باستحقاقاتها المتزايدة من جانب والتحولات القسرية في إدارة المحتوى الرقمي.
في الواقع وللتاريخ فقد كانت البي بي سي العربية الإذاعة الأكثر مهنية في العصر الحديث إزاء التعاطي مع الأحداث العالمية حتى أضحت مدرسة يشار إليها بالبنان في هذا الشأن، غير إن ما أقدمت عليه الهيئة بتقليص عدد من الإذاعات ومحطات التلفزة التي تبث من لندن بعدة لغات يشير إلى إشكاليات حقيقية بات يواجهها الإعلام الجماهيري في العالم ومدى قدرته على مواكبة أذواق المتلقين والمستمعين الجدد المتدثرين كليا بأغطية التكنولوجيا الرقمية الكاسحة والتي لافكاك منها إلا بالرضوخ إليها، وهذا تماما ما فعلته هيئة الإذاعة البريطانية والتي أقرت عمليا بأنه لابد من تطوير المحتوى الرقمي ليغدو أكثر قدرة وسطوة على اجتذاب المتابعين، وفي خضم ما يشهده العالم من تحولات مفروضة على الإعلام بنمطه القديم مع الرغبة القائمة أصلا في قبول التحدي والوصول للجماهير بإعلام أكثر ثقة ومصداقية في تقديم المحتوى.
لقد أكدت مديرة الخدمة العالمية في بي بي ليليان لاندور أن هناك حاجة لتوسيع الخدمات الرقمية بعد أن زاد عدد المتابعين إلى أكثر من الضعف منذ عام 2018، وأن الطريقة التي يصل بها الناس للأخبار والمحتوى آخذة في التغير، وأضافت نحن ملتزمون تماما بتقديم خدمة مستقلة محايدة إلى الناس في مختلف أرجاء العالم العربي لكننا بحاجة للوصول إليهم عبر المنصات التي يستخدمونها.
ومن ما قالته ليليان لاندور نجد أنه لامناص أصلا غير إتخاذ هذه القرارات التي أحدثت هذا الدوي الهائل في كل العالم، ذلك أن تكلفة هيئة الإذاعة البريطانية والبالغة 500 مليون جنيه إسترليني سنويا يدفعها الشعب البريطاني طوال ال 84 عاما الماضية، من خلال دفع رسوم تبلغ 159 جنيها كل سنتين لكل بيت به جهاز تلفزيون، ومن خلال هذه المنظومة إستمدت الهيئة إستقلاليتها وحيادها.
لقد شكلت البي بي سي قيمة كبيرة لبريطانيا، وكانت أحد الأذرع الطويلة للأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وصوتها المسموع بإحترام فيما خلف البحار، مثلها مثل اللغة الإنجليزية، إذ تمثل رأس الرمح للمحتوى الثقافي البريطاني العريق الذي اسمع العالم كله صوت لندن وسياستها ووجهة نظرها إزاء قضايا العالم بشكل غير مباشر.
لقد جاء إغلاق بعض القنوات الإذاعية والتلفزيونية لبى بي سي بعد أن أن أعلنت الحكومة بأن رسومها غير ملزمة على الشعب البريطاني على غير العادة.
ومع هذا فيبدو أن (هنا لندن بالعربية) عصية على الغياب كأول خدمة إذاعية غير إنكليزية اللسان تبثها البي بي سي عام 1938، وشكلت الوعي العربي طوال 8 عقود من الزمان وعمل بها فطاحلة الإذاعيين والإعلاميين العرب الذين حفروا أسمائهم بأحرف من نور في السجل الناصع للإذاعة البريطانية، وقدمت برامج لاتنسى تابعها ملايين المستمعين العرب من المحيط للخليج، وتركت إرثا ثقافيا ومعرفيا خالدا سيظل أبدا في ذاكرة الإعلام العربي والشعوب العربية.
غير أن التحولات الإقتصادية والتقنية قلبت الطاولة راسا على عقب واستطاعت أخراج هذا الصوت العريق من الساحة مجبرا، على ذلك يتعين على وسائل إعلامنا أن تضع ماحدث في الإعتبار وأن تستلهم العبرة فهي ليست ببعيدة أبدا عن ماحدث في لندن.
بالطبع التحول للبث الرقمي خطوة تتكيف مع الواقع الإقتصادي والتقني، ذلك إننا لن نصدق بأن بريطانيا ستتنازل بهذه البساطة وتقوم بقطع يدها الطولى القادرة كانت على الوصول إلى العرب في كل فج عميق، لنعتبر الخطوة بمثابة إنسحاب تكتيكي يهدف للتكيف مع المناخات الإعلامية القاسية التي تضرب كوكبنا.
نأمل أن يكون الدرس واضحا لوسائل إعلامنا من قرار كهذا وتداعياته على وسائل الإعلام لدينا وفي كيفية الإستعداد وإعادة التموضع في عالم باتت فيه المنافسة الإعلامية مؤلمة ومدمرة في ذات الوقت، ولامكان في هذه الساحة إلا لمن يستجيب بإيجابية للمتغيرات الحديثة الخاصة بأنماط العمل الإعلامي الجديد..