بقلم : محمد محمود عثمان
أشعر بالتفاؤل الشديد كلما يُعلن عن اجتماعات لمنظمة العمل العربية في أي مكان وأتابع كل ما يصدر عنها ومنها لاهتمامي بأسواق العمل العربية ومدى تطورها ومواكبتها للتطورات والمتغيرات التي يشهدها العالم، لأنها عصب التنمية، ومن البني الأساسية والقاعدة الرئيسية التي تنطلق منها الاستثمارات والصناعات في كل الاقتصادات المتقدمة ومن المتناقضات أن بعض المسؤولين من المشاركين الدائمين في مؤتمرات - أقصد في مهرجانات- منظمة العمل العربية لعدة سنوات، من وزراء ورؤساء منظمات أصحاب الأعمال وممثلي القطاع الخاص وغرف التجارة والصناعة والنقابات والاتحادات وممثلي المنظمات العربية، ليس لديهم قناعات مبدئية بقضايا العمل وحقوق العمال، بدليل أن لديهم ممارسات ميدانية تخالف قوانين العمل والتشريعات المحلية والقوانين الدولية، حتى أن البعض منهم ضده قضايا عمالية أمام القضاء، في ظل دور النقابات العمالية الغائب تماما إلا من الدور التشريفي، ما يؤثر على التوزان المطلوب بين أطراف الإنتاج، فكيف يمثلون قطاعات العمال في المؤتمرات الخاصة بهم؟ الا اذا كنا نجعل منهم ديكورا تنظيميا امام العالم، والاجتماع الأخير لمؤتمر العمل العربي في دورته الـ “48» استضافته العاصمة المصرية القاهرة برعاية من الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ أيام شاهد على ذلك، الذي انعقد في وقت تحاصر فيه الأزمات المتعددة جميع دول العالم، التي انعكست آثارها المباشرة على الشباب والعمال خاصة في الدول النامية، التي تفتقد لمعايير العمل اللائق ومواثيق العمل الدولية المعتمدة، ولا سيما أن معظم التشريعات العمالية القائمة في البلاد العربية تحتاج إلى مراجعة وتطوير شامل، في نظم وقوانين التأمينات الاجتماعية، والتأمين ضد البطالة، والتأمين الصحي الإلزامي، والرعاية العمالية الحقيقية - ونحن في الدول العربية منها - التي لا زالت تحبوا على طريق احترام حقوق العمال، بل وتتفنن في التهرب من الالتزامات الدولية في هذا الشأن في ظل عدم الشفافية السائد في كل أسواق العمل، ومنظمة العمل العربية هي التنظيم المؤسسي العربي الأعلى للعمل والعمال في الوطن العربي، ويشارك في اجتماعاتها أطراف العمل الثلاثة «الحكومات، أصحاب العمل، العمال «، لذلك هى المرجعية - أو يجب أن تكون - لعدة عناصر: أهمها المنجزات والإصلاحات التشريعية والإدارية التي تصب في صالح العامل والتي تطبقها الدول الأعضاء - الدراسات والأبحاث الجديدة التي تناقش قضايا العمال وأسواق العمل - احتياجات السوق من المهارات التكنولوجية والتقنية الحديثة - مستوى دخل العامل - مستقبل أسواق العمل - حصرالمشاكل والظواهر التي تعاني منها أسواق العمل العربية - إنتاجية العامل - التجارب الناجحة عربيا - الداخلون الجدد لسوق العمل - الفصل في المنازاعات العمالية والتجارية - الحلول ومقترحات العلاج، لضمان الوصول إلى نتائج إيجابية للتشغيل والحماية الاجتماعية للعمال، وتفادي هذه المشكلات في المستقبل، خاصة أن كل بيت في الدولة العربية قد تأثرمن جائحة كورونا ومن موجات تسريح وفصل العمال المتتالية، إلى جانب تداعيات أزمة الحرب على أوكرانيا، وراتفاع الأسعار ومعدلات التضخم، ومظاهرالركود، وفي إنعدام فرص العمل الجديدة، وتصفية بعض الشركات والمصانع أو بيعها، ووجود عمليات ترحيل أو استغناء جماعي عن العمال في بعض الدول، وافتقاد التأمين لضمانات الحياة الكريمة بعد التقاعد، وتعثر القطاع الخاص وتدهورأسواق العمل مايفاقم من حجم أزمة البطالة، وما نتج عن ذلك من سلبيات على العمل والإنتاج والاقتصاد بشكل عام، وزيادة الهجرة غير المشروعة للعامل العربي الذي يلقى حتفه على شواطئ أوروبا، وقد تفحصت كل كلمات ومداخلات جميع الخبراء والمستشارين والمسؤولين المشاركين في المؤتمر بحثا عن كلمة «العامل»، وللأسفت اُفتقدت هذه الكلمة صراحة أو كناية، أو حتى على استحياء، بحثا عن الدور المفقود لمنظمة العمل العربية، فتحول تفاؤلي إلى تشاؤم، لأن هذا الخلل في الطرح يزيد من اختلالات أسواق العمل آنيا ومستقبليا، خاصة بعد أن تجاهل المؤتمر الخطوة العصرية الحضارية والشجاعة لتنظيم سوق العمل التي أقدمت عليها دولة الإمارات العربية المتحدة، وسبقت بها كل الدول الخليجية، بالإعلان عن الاستغناء رسميا وكليا عن نظام الكفيل، ضمن منظومة التأشيرات الجديدة التي سيبدأ العمل بها اعتبارا من شهر أكتوبرالمقبل، والاعتماد على العلاقة التعاقدية القائمة بين العامل ورب العمل، لأن نظام الكفيل هو الذي يُعرض الدول العربية للانتقادات الدائمة في كل المحافل والمؤتمرات الدولية، ولازال البعض يتمسك به، بما يؤكد الرغبة الخفية في عدم تغيير هذا النظام بل والاحتفاظ به، على الرغم من كثرة المناقشات والمجادلات والمداولات الدولية ومن منظمات حقوق الإنسان حول ضرورة مراجعة نظام الكفالة للعمال أو إلغائه، في الوقت الذي أشاد فيه البيان الختامي للمؤتمر بالإصلاحات العمالية التي نفذتها دولة قطر في سبيل حماية وتحسين ظروف العمال وضمان حقوقهم، ولكن أغفل البيان الإشارة إلى ماهية هذه الإصلاحات التي تمت حتى يمكن الاستفادة منها عربيا، ولم يناقش المؤتمر مشاكل أعداد المسرحين والمفصولين والأسر المتضررة والباحثين عن عمل ونسبة البطالة في كل دولة والجرائم المتنوعة التي نتجت عنها، وتعرض العمال المسرحين للسجن والتشريد بسب الديون وعدم الوفاء بالشيكات والقروض، وتأثيرها على الامن والسلام الاجتماعي وتكلفتها الاقتصادية على الدول، ومع كل ذلك فإ ن اللفتة الجيدة للمؤتمر هو طرح رؤية لما يمكن أن تحققه الدول العربية في المستقبل القريب مع التوسع في استخدام أدوات ومنظومة “التحول الرقمي” في اقتصاداتها، لدفع عجلة التنمية ولرفع معدلات النمو الاقتصادي وتوسيع قاعدة فرص العمل المستقبلية وإيجاد تدريب عالي المهنية على الوظائف الرقمية.