بين الحرية والمسؤولية وصناعة الفوضى

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٣/أغسطس/٢٠٢٢ ٠٩:٣٤ ص
بين الحرية والمسؤولية وصناعة الفوضى

بقلم: مرتضى بن حسن بن علي

 الاصل في الإنسان أن يكون حرا، ويفكر بحرية، وأن يتصرف في شأنه الخاص حسب ما يرتئيه ويريده كي يحقق ذاته الإنسانية على أوفى وأوفق وجه، وليس هناك مجتمع يقدر أن يتقدم ويبدع وينتج الأفكار وتجديدها إذا كانت دمائه تجري في أوعية من حديد، وقد شغل العلماء والفلاسفة والمفكرين والكتاب بهذا الموضوع عبر الأزمان، والأمم آلتي استطاعت أن توفر مساحة معقولة من الحرية، تحركت وتقدمت وسبقت غيرها، ويقول الفاروق عمر: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، كما يقول الإمام علي: لا تكن عبد غيرك،وقد جعلك الله حرا.

الحريّة هي قدرة الإنسان على القيام بالأمور آلتي لا تضر بالآخرين، أو تخالف القانون، وللحرية حدودا وقيودا وشروطا يتم ضبطها بالقانون حتى لا يُساء استخدامها، والا ألحقت أضرارا بالأفراد والمجتمعات، والقانون لا يقمع الحرية وإنما يحميها من فوضى الحرية المطلقة، ولا تكتمل الحرية إلا بقيمة أخرى تُكملها وتضبط أثرها، وهي المسؤولية، وإذا كانت “الحرية” هي: قدرة الإنسان على فعل الشيء أو تركه بإختياره وإرادته الذاتية الحرة، فإن “المسؤولية” هي: تحمل تبعات ونتائج ما يفعله الإنسان أو يتركه بإختياره وإرادته الذاتية الحرة كذلك، وهكذا يقترن حق الحرية بواجب المسؤولية، بحيث تفقد الحرية معناها بدون المسؤولية، وتفقد المسؤولية معناها بدون الحرية، فالعلاقة بينهما علاقة تلازم وتكامل؛ فالإنسان حر ما لم يضر.

والقانون هو الميزان الذي يضبط حركة الإنسان وخياراته. والله - جلّت قدرته - عندما منح الإنسان حرية الاختيار، ربطها بتحمل المسؤولية. الحرية والمسؤولية هما بمثابة كفتي الميزان، لابد من تواجدهما معا في تقابل، لأجل تعزيز الاستقرار وتفعيل النماء معا في تزامن وترويضها على التفاعل الإيجابي بين كفتي الميزان، إذ لا توجد هناك حرية بلا حدود وبلا شروط وبلا متطلبات ولا ضوابط تضبطها لتحمي الحرية ومفهومها من الانزلاق إلى الفوضى، فالحرية تقتل ذاتها بذاتها حين تكون بلا مسؤولية.

وسائل التواصل الاجتماعي وفرت مثلما يقال "منبرا من لا منبر له"، ولكن مع الأسف فان البعض يسيء استخدامه، ويحوله إلى منابر يتم استثمارها لاغراض التحريض ونشر التطرّف بشتى أنواعه.

بالتأكيد فان وسائل التواصل الاجتماعي أضفت متعة وشغفاً على طريقة تلقي الأخبار، وأضحى الارتباط بها أكثر من الارتباط بوسائل الإعلام التقليدية،ولكنها تحولت إلى ما يشبه "وجبة الاكل السريعة" تُؤكل وتُستهلك بسرعة، والوجبة اللذيذة تحتاج وقتا وصبرا،والسرعة لا تحمل الدقة والصدقية دائما، وهذا ما يشكل تهديداً على مضمون الرسالة الإعلامية،وكيفية وصولها دون تشويش للمتلقي، فالرسالة الإعلامية عبر وسائل التواصل أصبحت أكثر انتشاراً وتنافسيةً وإمتاعاً، لكنها في الوقت ذاته أكثر عرضة للاختراق والتشويه والتزوير، وهنا يكمن التحدي الكبير في إمكانية الحفاظ على رصانة ودقة الرسالة الإعلامية وسط سيل من الفوضى غير المسبوقة على مواقع التواصل الاجتماعي، الأكثر انتشاراً، والأقل مصداقية، باستثناءات حسابات بعينها لا تشكل إلا نسبة صغيرة جدا من عشرات الالوف من الحسابات التي يمتلئ بهم الفضاء الإلكتروني.

الحرية بمعزل عن المسؤولية تؤول ضربا من الفوضى، كما أن التركيز فقط على المسؤولية دون تأكيد الحرية كحق أصيل، ثابت، يحجم قابليات التحقق الذاتي للأفراد، وتباعا، في الحالتين، يتعثر تقدم المجتمع ككل، تنحسر مبادرات الإبداع والابتكار، ويتعسر الإرتقاء على السلم الحضاري، فالحرية ليست ضد المسؤولية على قاعدة ان الضدين لايجتمعان - اذا حضرت الحرية انتفت المسؤولية أو بالعكس.

الحرية والمسؤولية هما بمثابة كفتي الميزان، لابد من تواجدهما معا في تقابل لأجل تعزيز الاستقرار وتفعيل النماء معا في توازن وتزامن،كفة الحرية تحقق للأفراد كافة القابليات الإيجابية التي أودعها الله فيهم، الأمر الذي تباعا يثري خبرة الحياة على صعيد الفرد والمجتمع بسواء، أما المسؤولية، فتحرص على حماية الصالحِ الوطني المشترك، والصالحِ الإنساني العام، مما يبدر من أفراد أو تنظيمات متعددي المنطلقات والوجهات من تصرفات ضارة، ومجحفة. القيد أو الالتزام الذاتي لا يكبت قابليات المرء، وإنما يصونها عن الخطل، بل ويوجهها لما فيه نماء الفرد وتباعا نماء الأسرة والمجتمع.

المسؤولية تعني عدم التعدي على الاخر وعدم المساس بحريات الاخرين والحرص على حماية الصالحِ الوطني المشترك، من أفراد أو تنظيمات، وتجنب التصرف المؤذي ، أو الاصطدام، بسلطة القانون المشترك والصالحِ الإنساني العام، بالطبع من حق الجميع المطالبة بتغيير القانون ولكن ليس من حقهم الاشتباك معه، وهكذا يقترن حق الحرية بواجب المسؤولية، بحيث تفقد الحرية معناها بدون المسؤولية، وتفقد المسؤولية معناها بدون الحرية. فالعلاقة بينهما علاقة تلازم وتكامل؛ الانسان حر ما لم يضر.

مثلا حرية التظاهر مسموحة ولكن ضمن اشتراطات معينة حتى لا تتحول إلى فوضى، منها ابلاغ السلطات المعنية عن الرغبة بالتظاهر، والعدد المتوقع من المشتركين، والشعارات المرفوعه، ونقطة انطلاق المظاهرة وانتهائها ومسار سيرها، لكي تتمكن السلطات من توفير الحماية اللازمة لها من اية عتاصر قد تحاول الاستغلال والتعدي على المتظاهرين أنفسهم والتأكد بان المظاهرة لا تخرج من مسارها لإتاحة المجال للاخرين استعمال الطريق، وعكس ذلك فانها سوف تتحول إلى فوضى.

الحرية لا تعني التجاوز والخروج عن النظام، او الشتم والتجريح، وإلا تتحول إلى فوضى، كما لا تعني قيام المتظاهرين إلى الإضرار بالممتلكات العامة أو بث الذعر والاعتداء والاساءة إلى احد، فالحرية تنتهي عند اصطدامها بحريات الاخرين، فحتى في االبلدان التي تسمي نفسها بإنها رائدة الحرية في العالم، فان المظاهرة تحتاج اخذ موافقة السلطات المختصة. لنتصور إن سائقا يقود عربة في الطريق العام وهي مزدحمة بالركاب، فتظهر أمامه إشارة حمراء تطلب منه الوقوف، السائق يملك هنا حرية مواصلة سيره وقيادته للعربة، فلا يقف، لكن المسؤولية عن أرواح ركابه تحتم عليه الوقوف، هنا نرى ثنائية الحرية والمسؤولية ككفتي ميزان. فهو حر من جانب، ولكنه مسؤول من جانب آخر، فلو كانت الحرية في مثال حالة السائق بلا مسؤولية لجاءت نتيجة هذه الحرية كارثة ومأساة، لكن المسؤولية أخذتها إلى الأمن والطمأنينة.

توجد لدينا العديد من المشاكل والازمات المتراكمة ونقدر ان نفهم بوجود حالة قلق تدعو بعض الفئات إلى عدم الرضا عما ترى، ويحفزها إلى ان تفتش في كل النواحي عن خيارات بديلة تومئ إلى مستقبل أفضل، غير ان بعض حالات التفتيش عن ما تعتقدها من بدائل تعبر عن نفسها أحيانا بطرق غير مقبولة أو مرضية، فبعض الرسائل تتجاوز حدود حرية التعبير المسئولة، وتتحول إلى نوع من صناعة الفوضى، وقد تؤثر سلبيا على البلد وأمنه واستقراره، فاللغة المفرطة في التهكم وتجاوز كل شيء وازدياد الشد والجذب والاحتكاك والجدال حولها، لن تؤدي الى تحقيق آي هدف، وربما تؤدي الى هدمه، والأمل ألان ان نفتح جميعا عقولنا وقلوبنا وفكرنا لبعضنا البعض، وان نناقش المستقبل، وان نذهب اليه بطريقة سليمة ومطعمة بتجارب الماضي، ومن واجب الجميع بدون استثناء المساعدة على فتح هذا الطريق، ويشارك على ارساء قواعد متينة تستند إليها ألية التغيير المامون.

و ظني - و ربما أملي - ان وسائل العصر، مضافة إلى شحنة القلق، مضافة إلى حراك اجتماعي واعي، ومضافة الى قيادة حكيمة و قادرة على استيعاب المتغيرات و التجاوب معها، قادرة كلها ان تتحول الى طاقة ايجابية، تصارع عدم الرضا بالأمل، ولا تصارع الأمل بعدم الرضا، من أجل بناء عمان الغد عبر نهضة متجددة، وتحقيق تنمية شاملة مستدامة في مناخ وطني يسوده وئام اجتماعي وإستقرار سياسي.