مقامرة بنك الاحتياطي الفيدرالي على العمالة الفائضة

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠٤/مايو/٢٠١٦ ٠٠:٠٢ ص
مقامرة بنك الاحتياطي الفيدرالي على العمالة الفائضة

لاري هاثواي

في الأسابيع الأخيرة، شَجَّع رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الأسواق عندما تبنى نهجا أكثر تدرجا في تطبيع السياسات. وكانت أحدث التصريحات العامة التي ألقت بها رئيسة البنك جانيت يلين في مارس أكثر مسالمة واسترضاء من كل التوقعات. وفي اجتماعه الأخير، أعلن بنك الاحتياطي الفيدرالي أنه يعتزم رفع أسعار الفائدة في عام 2016 بمقدار ربع نقطة مرتين فقط، بدلا من أربع مرات. وفي الاستجابة لهذا التصريح باع المستثمرون الدولار الأميركي وزايدوا على أسعار الأسهم وسندات الخزانة الأميركية، وارتفعت أسعار السلع الأساسية وأصول الأسواق الناشئة.
لأول وهلة، تبدو هذه التطورات غريبة. فأولا، يبدو قرار بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي متناقضا مع العلامات التي تشير إلى تسارع التضخم في الولايات المتحدة. وإذا كان بنك الاحتياطي الفيدرالي، كما اقترح البعض، يستجيب بهذا للمخاوف بشأن النمو العالمي، فليس من المنطقي أن ترتفع أسعار الأصول العالمية المخاطر ــ وخاصة السلع الأساسية والأسواق الناشئة. ولكن هناك خيط منطقي يفسر هذا التناقض الظاهري، والذي يتمحور حول مقامرة يخوضها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ربما تكون عالية المخاطر.
قبل أن نصل إلى ذلك الرهان، يستحق الأمر النظر في تفسيرات أخرى مقترحة لارتفاع السوق. يركز التفسير الأول على التيسير النقدي من قِبَل البنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان. ولكن أسعار الفائدة السلبية ومنحنيات العائد الثابتة تضر بأرباح البنوك؛ وتظل الروابط بين السياسات النقدية غير العادية والنمو أو التضخم هشة، ومن المؤكد أن السياسة النقدية عُرضة للتأثر بتضاؤل العائدات الآن.
وتركز وجهة نظر أخرى على تقييد بلدان منظمة الدول المصدرة للبترول (الأوبك) للإمدادات من النفط، بزعم أنها تساعد في دعم أسعار النفط وبالتالي المنتجين من ذوي التكلفة العالية في أميركا الشمالية. ولكن هذا المنطق يعتمد على علاقة الارتباط أكثر من استناده إلى العلاقة السببية. ذلك أن منظمة الأوبك لم تقرر خفض الإنتاج، ولم يوافق على تجميد الإنتاج سوى عدد قليل من أعضائها. أما الانخفاض الحقيقي للفائض من المعروض العالمي فينتظر انحدار الناتج، مع نضوب الآبار القائمة المحرومة من الاستثمارات الرأسمالية.
والتفسير الأقرب إلى المعقول لتحسن أداء السوق هو تراجع التشاؤم. الواقع أن المخاوف من الركود في الولايات المتحدة، أو المملكة المتحدة، أو ألمانيا ــ وهي بلدان تتسم بالتشغيل الكامل للعمالة وارتفاع دخل الأسر الحقيقية ــ كانت دوما غريبة بعض الشيء. وكذلك كانت الفكرة القائلة بأن تقلبات الأسواق المالية من شأنها أن تخلف تأثيرا شاذا يتمثل في إجهاد إنفاق الأسر أو الشركات إلى حد كبير. وفي الصين ــ الدولة التي ربما تشهد تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي، ولكنها بعيدة كل البعد عن الركود ــ يساعد ارتفاع دخل الأسر والاستهلاك في التعويض عن انحدار الاستثمار في الأصول الثابتة.
يعيدنا هذا إلى مقامرة بنك الاحتياطي الفيدرالي. لعل منشأ تغير رأي صانعي السياسات يرجع إلى إعادة النظر في ركود الاقتصاد الأميركي، وخاصة في سوق العمل. ففي تصريحاتها الأخيرة، لاحظت يلين أن معدل المشاركة في قوة العمل "ارتفع" وأن "حيز التحسن" ظل قائما. وإذا كان بنك الاحتياطي الفيدرالي يعتقد الآن أن الاقتصاد يتمتع بقدرة أكبر على التوسع إلى مستوى أعلى من الاتجاه من دون توليد قدر كبير من التضخم، فبوسعه على حد تعبير جون لينون أن "يعطي النمو الفرصة".
ويشكل تسارع النمو وتباطؤ تشديد السياسات خبرا طيبا لأسعار الأصول. كما يعني سلوك بنك الاحتياطي الفيدرالي نهجا أكثر لطفا أن خطر ارتفاع قيمة الدولار سوف يتضاءل ــ وهي فائدة لا لبس فيها تعود على أسواق السلع الأساسية والاقتصادات الناشئة المثقلة بالديون المقومة بالدولار. وأخيرا، يساعد الدولار المستقر في تخفيف الضغط عن الرنمينبي، وهو ما من شأنه أن يعمل على إبطاء تدفق رؤوس الأموال "الساخنة" إلى خارج الصين، وهو ما يزيل بدوره مصدرا آخر من مصادر الخطر التي تهدد النظام المالي العالمي. ونظرا لهذه العواقب، فليس من المستغرب أن تتحول الأسعار نحو الصعود.
ولكن في ظل اتجاه التضخم الأساسي في الولايات المتحدة، يخوض بنك الاحتياطي الفيدرالي مخاطرة كبيرة. ففي نهاية المطاف، أصبح مؤشر أسعار المستهلك الأساسي بالفعل عند مستوى 2.3%، يقوده معدل تضخم يبلغ 3.1% في الخدمات (وكل من الرقمين ارتفع بما يزيد على نصف النقطة المئوية على أساس سنوي). كما تسارع التضخم في قطاع الإسكان، والذي يشمل نحو ربع مؤشر أسعار المستهلك، إلى 3.2%. وقفز نمو الأسعار في خدمات الرعاية الصحية، التي تباطأت في السنوات الأخيرة، إلى 3.9%، وهو ضعف المعدل المسجل قبل عام واحد.
ويفضل بنك الاحتياطي الفيدرالي مراقبة تضخم "الإنفاق الاستهلاكي الخاص"، والذي بلغ معدل أكثر هدوءا عند مستوى 1.7%، ولا تزال أسعار السلع على مؤشر الإنفاق الاستهلاكي الخاص في انخفاض، كما سجلت أسعار الخدمات ارتفاعا بنحو 2.1%، وهو المعدل الذي لم يتغير تقريبا على مدار العام الماضي.
ولكن النقطة المحورية بالنسبة لبنك الاحتياطي الفيدرالي هي سوق العمل. فوفقا لتقرير صادر في مارس/آذار، ازداد معدل المشاركة المدنية بنحو نصف نقطة مئوية من أدنى مستوى بلغه في سبتمبر/أيلول 2015، والآن يبلغ 63%. وتشير نفس الدراسة إلى أن مايقرب من ستة ملايين أميركي، وهم خارج سوق العمل حاليا، راغبون في العمل. وهناك ستة ملايين آخرين يعملون بدوام جزئي لأسباب اقتصادية.
تعكس مستويات المشاركة في قوة العمل في الولايات المتحدة بشكل جزئي عوامل بنيوية. وكانت كل الفئات الفرعية تقريبا ــ حسب الجنس، أو مستوى التعليم، أو الفئة العمرية ــ في انحدار في الولايات المتحدة منذ عام 2000. ومع هذا فإن المعروض من العمل أيضا دوري عادة، إذ يرتفع مع تحسن الاقتصاد وارتفاع فرص العمل. وحتى الآن، كان هذا النمط الدوري غائبا عن "المعتاد الجديد" في مرحلة ما بعد الأزمة.
ولكن ماذا قد يعني الإمداد المرن من العمالة لسياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي؟ تعتمد الإجابة على كم المتاح من العمالة الفائضة. لنفترض أن المتاح 1.5 مليون عامل ــ الرقم المتحفظ الذي يُقَدِّر نسبة العمالة المدنية إلى السكان عند مستوى أقل كثيرا من الذروة التي بلغتها بعد الحرب. وقد يستغرق الأمر 12 إلى 18 شهرا، عند مستويات معقولة من خلق فرص العمل في الولايات المتحدة، لاستيعاب هؤلاء الداخلين الجدد. وقد يؤدي هذا التدفق من العمالة إلى تخفيف الضغوط المرتبطة بالأجور والأسعار، وهو ما من شأنه أن يسمح لبنك الاحتياطي الفيدرالي بمواصلة تطبيع أسعار الفائدة تدريجيا. وكلما كان المجمع المتاح من العمالة أكبر، كلما كان بوسع بنك الاحتياطي الفيدرالي أن يزيد من بطء عملية التطبيع.
ويذكرنا هذا بتجربة رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق ألان جرينسبان في أواخر تسعينيات القرن العشرين، عندما سمح بازدهار الاقتصاد الأميركي، بناء على حدس ــ والذي تبين أنه على حق ــ مفاده أن الإنتاجية كانت في تسارع. فهل تكون يلين على استعداد لخوض رهان مماثل في ما يتصل بالمعروض من العمل؟
في الوقت الحالي، تأسر سياسات السخط الشعبي ــ من حملة دونالد ترامب الرئاسية إلى احتمال الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي ــ اهتمام العالم. ولكن التقارير عن تشغيل العمالة والتضخم في الولايات المتحدة هي المصدر الحقيقي للأدلة حول المستقبل . وهناك ينبغي للمرء أن يبحث عن العوامل التي من المرجح أن تحرك الرهان الأكبر ــ في ما يتصل بالسياسات والأسواق على حد سواء.
لاري هاثواي رئيس مجموعة حلول المحافظ الاستثمارية المتعددة الأصول، وكبير خبراء الاقتصاد لدى مجموعة GAM لإدارة الأصول العالمية.