عمان.. الطريق إلى التقدم أو التراجع (1)

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٧/يونيو/٢٠٢٢ ١٨:٢٣ م
عمان.. الطريق إلى التقدم أو التراجع (1)

بقلم: طلال بن الزبير

"نجاح الإنسان في الحياة مبني على توافر قاعدتين مهمتين وهما: الموارد (مثل العلاقات، والمعارف، والاتصالات، والأموال، وغيرها)، والقدرات (كالكفاءة، والخبرة، والمؤهلات، وغيرها). وفي حال توافر إحدى هاتين القاعدتين لدى الإنسان فإنها تؤهله للبقاء، أما عندما تتوافر لديه القاعدتان معا فانها تمنحه ميزة كبرى للعيش. وانه بتوافر احداهما تتوافر الأخرى مع مرور الزمن. ولكن يجب أن يدرك الإنسان ملاءمة تلك الموارد والقدرات مع قيمتها في البيئة التي ينتمي اليها، ليكون لها مردود أكثر إيجابية للعيش في حياة مليئة بالرخاء وتنعم بالاستقرار والأمان، ويتطلب ذلك مزيدا من الصبر والعمل.

هذه المقالة هي محاولة مني لاستعراض بحوث ونظريات علماء ومفكري الفلسفة والاجتماع الذين يوضحون لنا أهمية فهم المتغيّرات والسمات التاريخيّة، وفي مقدمتها دور الجغرافيا والعادت والتقاليد في تحديد ملامح الأوضاع الراهنة السائدة في مجتمعنا والمجتمعات المجاورة بالمنطقة وتشكيل نمط تفكير الشعوب والتجمعات السكانية.

وسوف تلاحظون أن المقالة ركزت واقتبست من نظريات المفكرين الغربيين، ويرجع سبب ذلك إلى ندرة أو انعدام نظريات ومراجع عربية في هذا السياق إلا ما ندر.

ورغم أنني أميل دائما إلى قبول ما يطرح من آراء وأفكار مبرّرة، فإن هذا لا يعني بالضرورة موافقة القارئ على رأيي أو على ما يتم طرحه في هذه المقالة، حيث سأكون محايدا في عرض آرائي عوضا عن النقد السلبي أو كيل المديح للواقع. لذا ينبغي عليّ -على أقل تقدير- إبراز بعض الاثباتات والحقائق من الكتب والمراجع للاجابة على التساؤلات التالية: لماذا تبدو الأمور كما هي عليه الآن- لدرجة معينة ؟ أهو أمر مقدّر أم حتميّ؟ ربما هو كذلك وربما هو غير ذلك.

ولا تتطرق هذه المقالة الى تقديم الحلول بل الهدف منها هو محاولة تحليل واستكشاف الواقع من مختلف زواياه.

الوضع الراهن

حدثت الحقبة الثانية لسلطنة عمان في العهد الميمون لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه - وساهمت الاصلاحات الاقتصادية والتحديث المجتمعي في الارتقاء بالحياة العامة وتقدمها الى مرحلة جديدة كليا، حيث تجلّى ذلك في عودة العمانيين المهاجرين الى الخارج ابان النهضة المباركة الى عمان وذلك للمساهمة الفعّالة في بناء وطنهم. وفعلا، فان تدفق الثروة الناتجة عن صادرات المنتجات الهيدروكربونية (النفط ومشتقاته) قد لعب دورا مهما في احداث النهضة. وكما هو معلوم فإن استخراج النفط في عمان يتم بصعوبة بسبب وجود المياه فيه بالإضافة إلى عمقه نظرا لطبوغرافية الاماكن التي يوجد فيها النفط في أراضي السلطنة مما يؤدي إلى زيادة تكلفة الإنتاج على عكس استخراج النفط في دول الخليج.

إن اقتصادنا يعرف باقتصاد الريع أو الاقتصاد الريعي، وهو "اعتماد الدولة على مصدر واحد للريع (الدخل)، وهذا المصدر غالبا ما يكون مصدرا طبيعيا ليس بحاجة إلى آليات إنتاج معقدة سواء كانت فكرية أو مادية كمياه الأمطار والنفط والغاز، بحيث تستحوذ السلطة الحاكمة على هذا المصدر وتحتكر مشروعية امتلاكه وتوزيعه وبيعه".

تطرّق المفكر والكاتب الأمريكي دي كابلان في كتابه "انتقام الجغرافيا" مستعرضا تحليل ابن خلدون فذكر بأن حياة الرفاهية تعمل على تقوية الدولة عبر تعزيز شرعيتها في بادئ الأمر، في حين أنه في الأجيال اللاحقة فانها تؤدي إلى الانحدار الذي يقود بدوره إلى الانهيار. وهو ربما يكون كذلك إذا تراجع منسوب الرفاهية او شعرت الأجيال اللاحقة بانحدار مستوى الرفاهية.

إذاً، لنسلط الضوء على هذه المقولة، ونرى في إمكانية قياسه على واقعنا بالنظر الى وضع الانسان على مر الزمان.

1. لقد مكّنتنا الثروة التي تحصّلنا عليها من موارد الطاقة من تحقيق العديد من الانجازات ذات المردود الإيجابي سياسيا واقتصاديا. (لذلك فالحياة الرغدة تعمل على تقوية الدولة).

2. من الناحية الاقتصادية، نحن نستقدم القوى العاملة الوافدة -وبخاصة لغرض الخدمة في القطاعات الأولية والثانوية- بما يناسب احتياجاتنا وبقدر الامكانيات المتاحة، وذلك لاتاحة الفرصة أمام المواطنين للانخراط في العمل بالقطاعات الحديثة (الثالثوية أو قطاع الخدمات) كالبنوك والمصارف، والوزارات، وشركات التأمين، والوظائف الادارية، وتوفير المناخ الملائم لهم للنجاح والتميز. وبالتالي، فلقد هيأ ذلك للسلطنة تحقيق النمو السريع الذي واكب/ طرأ في منتصف السبعينيات من القرن الفائت. لقد تمّ ترسيخ هذا المفهوم وتقبّله من كافة شرائح المجتمع العماني. وبذلك تعززت شرعية الدولة.

3. على مدار حقبة الأربعين عاما، ارتقت المجتمعات الاقليمية في دول مجلس التعاون الخليجي بمنهجية تفكيرها ومنظورها حول تحديد ماهية الوظائف التي يجب توطينها. كان ذلك ناتجا عن اتخاذها التدابير الملائمة ونابعا كذلك من عملية النضج التي مرت عليها والتي أكسبتها ثقافة وفهما أكبر لمعنى الوظيفة الوطنية. وهذا طبيعي لكون قطاع الخدمات مفضّلا على القطاعات الأخرى. فهل يمثل ذلك مؤشرا ومؤذنا لقدوم مرحلة الانحدار؟ بمعنى أن أغلبية شباب الجيل الحالي قد آل إلى ما هو عليه الآن لرفضهم فكرة العمل بالقطاعات الأولية والثانوية كونها من وجهة نظرهم التي نشأوا عليها غير مناسبة لهم، ومبررين ذلك في أن الجيل السابق كان أوفر حظا منهم لوجودهم في الزمان المناسب، حيث كان الحصول على الوظيفة أمرا في غاية السهولة وخاصة فيما يتعلق بالتحاقهم بالعمل في مختلف المهن الخدمية في حين انه في الأجيال اللاحقه ’ فإنها تؤدي الى الانحدار.

يتضح لنا جليا وبشكل لا يخفى على أحد حقيقة الأزمة الذي نعيشها اليوم في ظل الوضع الراهن. لقد تشبّعت البنية الأساسية لقطاع الخدمات في السلطنة بكثرة الطلبات لوظائف ربما ليست موجودة من الأساس، ولا توجد حاجة اليها (في الوقت الراهن). في حين أنه يمكن وبكل سهولة ايجاد وظائف للمواطنين في القطاعين الآخرين (الأولي والثانوي). إن توفر المهارات المهنية هو مطلب أساسي للحصول على وظيفة بمقابل مادي جيد. كما أن المكافأة المادية الجيدة والملائمة والراحة الوظيفية هي مطالب أساسية لجيل الشباب الجديد (ربما من مواليد العام 1986 فما بعده). الا أن أغلبهم ينظر اليه بشكل مغاير فيرون بأن المؤسسات ملزمة بشكل غير مباشر في تدريبهم وتطويرهم، حيث كان يجدر أن يعوّل على دور التعليم المدرسي في ترسيخ وغرس المبادئ والثقافة المناسبة لديهم من خلال التربية العلمية النوعية.

إنّ المحسوبية والمحاباة السلبية (cronyism) تلعب دورا في تقييم الأداء. وبالتالي، فان التركيز على الجدارة الضمنية هو من المتطلبات الأساسية في وقتنا الحاضر، ويبرز هذا التوجه في مؤسسات القطاع الخاص حيث تم تداركه واعطاؤه أولوية قصوى منذ العقد الماضي أو ما سواه.

لنفترض وجود تقدّم مفاجئ مرتبط بوجود أعداد كبيرة من الباحثين عن عمل الراغبين في العمل بالقطاعين الأولي والثانوي. سنكون بذلك قد خطونا الخطوة الأولى نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي، فيما اذا توافر عامل الكفاءة الاقتصادية الداخلية سيقودنا ذلك الى تربّع المكانة التي تطمح لتحقيقه كل الأوطان وهو تحقيق الاكتفاء الذاتي. ولكن، بالرغم من هذا التفاؤل القائم على نظرية التقدم المفاجئ، فانه يتوقع من ذلك أن لا يدوم طويلا كونه سيقودنا في نهاية المطاف الى الافلاس. ويمكن فهم ذلك ببساطة حيث إن تطبيق مفهوم الحد الأدنى لرواتب المواطنين بصورة عامة على مثل هذه المهن يعتبر غير منطقيا اقتصاديا. ولا يتم تطبيق هذا المفهوم الا في الدول التي تفرض ضرائب عالية.

أنفقت الحكومة الرشيدة وما زالت تنفق حتى الآن البلايين في مشاريع البنية الأساسية المنتشرة في جميع أنحاء السلطنة، التي تعمل على تعزيز الكفاءة اللوجستية وتضمن سهولة التنقل والحركة للمواطنين والمقيمين. ومع ذلك، فان معظم الشركات والتكتلات التجارية في عمان تعتبر مؤسسات تجارية تقليدية وغير انتاجية وصناعية. حيث إنها تقيم فقط تحالفات مع شركات عالمية لغرض تمثيلها تجاريا أو للحصول على وكالات تجارية تمكنها من تقديم منتجاتها وخدماتها داخل السلطنة، وأحيانا يمتد على المستوى الاقليمي. وبعبارات بسيطة فانها تقوم بدور الوسيط التجاري في ممارستها لأعمالها.

إننا لم نلحظ أي تحول في الأداء الناتج عن نقل المعرفة الى الخبرات العمانية العاملة في معظم المشاريع الضخمة، كمشاريع البنية الأساسية والصناعات النفطية (المصافي ومحطات التحلية وغيرها) بما يؤهلهم في نهاية المطاف الى تعزيز مقدرتهم على المنافسة على كسب مناقصات المشاريع الكبرى دون الاعتماد على الخبرات الوافدة. كما انه لم يتم تحقيق القيمة المضافة في البلاد حتى الآن، ويرجع ذلك إلى الاعتماد على الخبرات الأجنبية. وفوق كل ذلك، فاننا اليوم نواجه تحديات اقتصادية لم تكن موجودة في السابق، وبالتالي يتم أيضا الاعتماد عليهم بشكل رئيسي حتى في الشؤون المتعلقة بالصيانة. وللتوضيح أكثر، فانني أعتقد أنه من الطبيعي أننا وحتى الآن لم نكتسب القدرات الفنية المعرفية نظرا لأن التنمية التي تحققت خلال الخمس وأربعين عاما الفائتة في جوهرها كانت انعكاسا لنهضة ناتجة عن اقتصاد الريع أتت بسبب الصادرات النفطية وليست ناتجة عن ثورة اقتصادية واجتماعية حقيقية. مرة أخرى، فاننا نؤكد على أن الجغرافيا تبرز نفسها بالقيود والحدود، وهذه القيود أثرت بشكل عكسي على مجمل التطور الحاصل في البلاد. ومع ذلك، فسنناقش في الجزء الثاني كيف نواجه ذلك ونحمي أنفسنا من التحديات التي تعصف بنا.

في مقالة للكاتب روبرت دي كابلان، بعنوان "القضاء والقدر والجغرافيا السياسية" يذكر أن الفيلسوف الفرنسي فولتير قد استنكر ما فعلته هزة أرضية مدمّرة - أم الكوارث الطبيعة - التي ضربت لشبونة بالبرتغال العام 1755م، حيث أودت هذه الهزة الأرضية بحياة آلاف الأشخاص ودمّرت ما يقارب ثلاثة أرباع المدينة. ولقد كتب من بعده الكاتب توماس مانك العام 1924م كتابا بعنوان "الجبل الساحر" ينتقد فيه الأقوال الاستنكارية لفولتير بقوله: "إن الانسانية يجب أن لا تستسلم وتتقبّل القدر".

تحدّد الجغرافيا - بدرجة كبيرة- كل شي تقريبا عن ملامح بيئتها. حيث إنها تشكّل المجتمعات وروح شعوبها من ثقافة ومعتقدات، وخصائص المجتع، وعاداته، وكل أشكال وأنماط الحياة فيه. سأنتقد هنا بأنه لو كان فولتير على قيد الحياة الآن، لكان من المحتمل أن تتغير وجهة نظره بشأن الطبيعة والقدر وبخاصة فيما لو كان بمقدورنا أن نطلعه على مستوى تقدم التكنولوجا الذي وصلت اليه وأوجدته البشرية - بوجود المراصد الرقمية التي تجرى من خلالها التحليلات القياسية الدقيقة التي تضع لشبونة ضمن نطاق المناطق المعرّضة للهزة الأرضية آنذاك مما يجعل من المدينة حتما عرضة لواقع لا مفر منه. يمكن ارجاع ذلك كله الى الجغرافيا وعوامل تأثيرها على المجتمع.

وأشار كابلان مستندا على مقولة لابن خلدون على أن الحياة الرغدة تعمل على تقوية الدولة عبر تعزيز شرعيتها في بادئ الأمر، في حين أنه في الأجيال اللاحقة فانها تؤدي الى الانحدار الذي يقود بدوره الى الانهيار. وهذا ناتج عن تنامي قوة القيادات الغازية من الأقاليم المجاورة، ممهدة بذلك لتأسيس سلالاتها الحاكمة في تلك المناطق غير المحصّنة. وهذا من الأسباب وراء انهيار الامبراطورية الأكدية.

وللاسهاب حول هذا الموضوع، يوضح روبرت دي كابلان في كتابه "انتقام الجغرافيا" أنه في نهاية المطاف أدّى بزوغ الحضارة التاريخية في العراق الى نشوء أكثر الأنظمة الاستبدادية لهدف فرض السيطرة على المجتمع ولتفادي التفكك الداخلي. وبالتالي برزت أسماء مشهورة لشخصيات اتسمت بالقسوة وجنون العظمة أمثال تيغلاث بيلسر (القرن الثاني عشر قبل الميلاد)، وأشروناسيربال الثاني (القرن التاسع قبل الميلاد)، وسيناشيريب (القرن الثامن قبل الميلاد) وغيرهم. وهذا النهج بلغ ذروته في عهد الرئيس صدام حسين. ويعلّق كابلان على ذلك بأنه لكون العراق عبر التاريخ يعد منطقة جغرافية سهلة الانتهاك من القوات الغازية الخارجية وعرضة للتفكك الداخلي، فان ذلك قد أوجد الحاجة إلى ظهور شخصيات استبدادية مماثلة. ويمكن قياس حاضر العراق على ذلك، حيث إنّ ضعف السلطة المركزية لحكومة المالكي المتفككة قد ساهم في ظهور تنظيمات قمعية تهدد أمن واستقرار العراق كتنظيم داعش الذي ينتهك حاليا مناطق شمال العراق. كما أنّ سلوك قائد "داعش" أبوبكر البغدادي يظهر تشابها كبيرا لسلوك قيادات العراق السابقة من حيث الاستبداد والقمع القاسي. وهذه تعتبر ظاهرة طبيعية موروثة ومتأثرة بجغرافيا المنطقة.

وهذا يوضح بأن المجتمع العراقي عبر تاريخه السياسي حكمه زعماء قمعيون واستبداديون ما عدا في الفترة الواقعة بين (1924-1958م).

أما المؤرخ ماك نيل فله تفسير مغاير عن الاستبداد والبيروقراطية في بلاد ما بين النهرين ويصوّر كيف أن مصر عاشت تحت حكم أقل استبدادا من العراق. "منحت الصحراء أرض مصر معالم حدود واضحة وسهلة الحماية والدفاع عنها (بعكس العراق)؛ بينما عمل نهر النيل كمصدر رئيسي وطبيعي لنظام الحياة في مصر. لذا فان الاستبداد لم يكن متطلبا أساسيا لاحكام قبضة الحكام على المنطقة. تم إغلاق جنوب مصر الصحراوي أمام الغزاة، وأبقي على تدفق نهر النيل. ومن الغرب قدم إليها المهاجرون الليبيون بطريقة سلمية، وكذلك الآسيويون من جهة الشرق. لم تتحول التهديدات إلى تحديات للسلطة المركزية كما حصل في العراق. ويعلّق كابلان بقوله بأن من المحتمل أنه خلال الأربعة آلاف سنة، لم تتعرض مصر للغزو. ويضيف كابلان أنه ليومنا هذا، فإن كلا من العراق ومصر قد حكمتهما أنظمة ديكتاتورية لفترات طويلة، ولكن الحقيقة في كون العراق أكثر سوءا من مصر هو أمر يتعلق بالتاريخ والجغرافيا.

ولتفسير ذلك بوضوح، يقارن ماك نيل كيف أن جغرافية مصر الطبيعية تحفّز وتخلق بيئة صديقة وودية وأسهمت في ظهور زعماء بارزين ينتمون اليها (بعكس العراق).

لذلك فان فهم الأوجه المتعددة لواقع الدولة، يصوّر لنا المؤشرات التي تتسبب في أو تقود الى التغيير. وهناك عوامل أخرى بالإضافة إلى الجغرافيا تسهم في قيام المؤسّسات السياسية والزعماء وتحدّد سلوكهم ومصيرهم. ومنها على سبيل المثال توافر الموارد الطبيعية والمناخ التي تعمل على تشكيل خصائص واقع الدول. وبكل تأكيد فإن من أهم تلك العوامل على الإطلاق نظام الأنهار حيث تعمل على ازدهار الزراعة وتوفير المؤونة الغذائية وبالتالي تساهم في النمو السكاني. وفي بعض الأحيان قد تكون الأنهار في مختلف المناطق الجغرافية نعمة لها أو خلافه، ومن الأمثلة عليه مصر، حيث يحيط بنهر النيل ما يقارب 80 مليون نسمة ويعتمدون في معيشتهم عليه، مما يجعل تلك المناطق مزدحمة بالسكان، والتي بدوره تؤدي الى ظهور العديد من السلبيات/ الاخفاقات.

تمكّنت الدول الغربية عبر تاريخها من أن تكون أكثر نجاحا وتقدما من حيث الكفاءة الوظيفية والانتاجية، حيث إنها تتمع بوفرة الأنهار والموارد المائية، وكذلك بوجود تضاريس التربة الغنية والخصبة، وبتنوع أشكال البيئات الموسمية. تساهم هذه العوامل في امتداد وانتشار المجتمعات السكانية في مناطق متفرقة ضمن نطاق جغرافي محدّد. كما يساهم توافر الأنهار ونظم امدادات الري في تحقيق الثروة بمساندتها لحركة الملاحة المائية مما يوسع قاعدة التبادل التجاري وتطوير منظومة الخدمات اللوجستية وغيرها من البنية الأساسية. وبالتالي فانه عندما تتوافر العوامل الأساسية للدول، فانها ترتقي بطبيعة الحال الى عهد التقدم المبني على الفعالية. ولمزيد من التوضيح، فانه عندما يتم توفير المتطلبات الأساسية للحياة، فان توجيه التركيز والاهتمام عندئذ يكون نحو مجالات أخرى كالتكنولوجيا والعلوم. ولذلك شهدت الدول الأوروبية عبر تاريخها تقدما ملموسا في المعارف والاكتشافات. ومنها يمكن فهم كيف أنّ مثل هذه البيئة المتسمة بالصفاء وبتوافر مقومات الحياة تعمل أيضا على تحفيز وتشجيع ظهور الحرف الأخرى كالفنون والموسيقى الكلاسيكية التي من شأنها أن تعكس المرتبة المتقدمة للنهضة والتقدم الانساني التي وصلت إليها.