من أساطير الوقت فى مصر

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٣/مايو/٢٠١٦ ٠٠:٥٨ ص
من أساطير الوقت فى مصر

فهمى هويدى

تروج فى مصر الراهنة مجموعة من الأساطير التى بات تفكيكها ضروريا، قبل أن تفرض نفسها على الألسنة والعقول وتسهم فى تشويه المعرفة والإدراك.

(١)
كان الدكتور أحمد عبدربه أستاذ العلوم السياسية سباقا فى تلك المحاولة، إذ نشرت له جريدة «الشروق» قبل عامين تقريبا (فى ٦ أبريل عام ٢٠١٤) مقالة كان عنوانها «حروب الجيل الرابع: ربع قرن من الأساطير»، خلص منها إلى أن المصطلح الذى ظهر حديثا فى الخطاب السياسى المصرى كان موضوعا للمناقشة بين العسكريين الأمريكيين، استهدفت هدم الفكرة وليس الترويج لها. واعتمد فى تحليلها على ورقة نقدية من ٣٠ صفحة نشرها فى عام ٢٠٠٥ عسكرى أمريكى هو أنطونيو إيشافاريا كان عنوانها «حرب الجيل الرابع وأساطير أخرى»، وفى ورقته خلُص إلى أن «نظرية الجيل الرابع ما هى إلا تبرير للفشل المخابراتى والعسكرى الأمريكى، وتعبير عن عدم الاعتراف بحقيقة تطور الفاعلين من غير الدول وضعف قدرة الدولة على احتكار وسائل العنف التقليدية وغير التقليدية أمام عالم متعولم وشبكات علاقات بين فاعلين قادرة على تخطى الحدود التقليدية». لذلك فإنه دعا العسكريين الأمريكيين إلى التخلى عن وهم النظرية والاعتراف بدلا من ذلك بأن ثمة واقعا جديدا على الدولة القومية الاعتراف به والبحث عن وسائل غير تقليدية لمواجهته ــ كما أنه حذر من الأضرار الجسيمة على الأمن القومى الأمريكى، إذا ما تبنى الأكاديميون والمثقفون أمثال تلك الأفكار التآمرية بديلا عن الفكر التحليلى النقدى. الدكتور عبدربه بنى على ذلك بعض الاستنتاجات التى كان منها أن الفكرة سحبت من سياقها الأصلى كنظرية عسكرية أمريكية تبرر فشل مواجهة الحركات الجهادية والإرهابية غير التقليدية إلى سياق سياسى مصرى أريد به تبرير وقوع الثورات والإضرابات والتظاهرات.
سار على ذات الدرب الدكتور سعد الدين إبراهيم أستاذ علم الاجتماع فى مقالة نشرتها له صحيفة «المصرى اليوم» فى ٣٠/٤/٢٠١٦ كان عنوانها «خرافة هدم الدولة المصرية». والعنوان يعبر عن معارضته للفكرة التى لم يسمع أحد بها من قبل. حتى بعد عزل الملك فاروق أو الرئيس الأسبق حسنى مبارك. حيث لم يعد ذلك هدما للدولة، وإنما استخدم المصطلح لأول مرة على لسان الرئيس عبدالفتاح السيسى وأرجع ذلك إلى أنه «كان يقصد به نظامه ويحاول تحصين موقعه الرئاسى فى مواجهة آخرين».

(٢)
أبدأ من حيث انتهى الدكتور سعد الدين إبراهيم لأن مصطلح «الدولة» صار الأوفر حظا من الانتهاك والابتذال. ذلك أن مصطلح هدم الدولة أو إسقاطها أصبح يستخدم كثيرا لإدانة ووصم أى تحرك لا ترضى عنه السلطة، ومن ثم تسعى لتعبئة الرأى العام ضده. كما رفعت فى مصر أخيرا راية «دعم الدولة»، التى صارت عنوانا لائتلاف داخل مجلس النواب. ناهيك عن أن الدولة صارت تختزل فى نظامها أو فى رئيسها، بحيث غدا أى نقد للنظام أو لرئيسه يعتبر هجوما على الدولة وسعيا لإسقاطها. وفى كل ذلك فإن الدولة فى مفهومها الأصيل تصبح مظلومة ومفترى عليها.
من هذه الزاوية فإن إقامة كيان برلمانى ينسب إلى «دعم الدولة»، يعد من قبيل الافتعال والتدليس، حيث يصبح العنوان فى هذه الحالة بمثابة قناع يراد به التستر على مهمة مساندة النظام والدفاع عن خطواته وإجراءاته.
يسرى ذلك بالقدر ذاته على مصطلح استهداف الدولة، الذى يراد به الاستنفار وتعبئة الرأى العام بدعوى أن وجود الدولة أصبح فى خطر، فى حين أن الاستهداف موجه إلى النظام. وهو ما لا يعنى أنه فى هذه الحالة مرحب به، ولكنه يعنى فقط ضبط المصطلح ووضعه فى إطاره الصحيح.
يتصل بما سبق ذلك الجهد الإعلامى الذى يبذل لترويج مصطلح التآمر على الدولة الذى أصبح يطلق على أى تحرك معارض فى داخل مصر أو خارجها، وقد فندت فى مقام سابق ادعاء التآمر الذى صار يتردد فى كل مناسبة، ومما قلته إن تآمر الجهات الخارجية على مصر فى مراحل سابقة حدث حين كانت القاهرة مؤثرة على محيطها ومنحازة إلى حركات التحرر الوطنى بما يجعل أداءها ضارا ومهددا لمصالح الدول الكبرى، فضلا عن أن عداءها لإسرائيل كان مستحكما. وهى اعتبارات لم يعد لها وجود فى الوقت الراهن الذى فقدت فيه مصر تأثيرها وتغيرت سياساتها الأمر الذى بات يدفع الدول المعنية إلى السعى للحفاظ على استقرارها وليس للتآمر عليها ــ إلا أن خطابنا السياسى والإعلامى ظل يؤثر التلويح بفكرة المؤامرة فى وصف تحركات المعارضين المصريين فى الخارج، للضغط على حكومات الدول التى تستقبلهم كما تستقبل غيرهم من المعارضين، ليس لأنها تؤيدهم ولكن لأن أجواء الحرية والديمقراطية التى تعيش فى ظلها تلك الأقطار تحتمل استقبال أنشطة من ذلك القبيل عند حدود معينة.
إذا اعتبر أن الهدف من الترويج لشعارات التحذير من إسقاط الدولة والتآمر عليها هو إسكات المعارضين وتخويفهم، فإننا نضم إلى اللائحة شعار رفض إهانة القوات المسلحة أو الشرطة. إذ بمقتضاه فرض على المجتمع أمران أولهما اعتبار المؤسستين فوق المساءلة والحساب وفوق القانون. الثانى إسكات أصوات المعارضين باعتبار كل نقد لأى منهما يعرف بأنه «إهانة»، يحال أمرها إلى القضاء العسكرى، وما أدراك ما هو!
أدرى أن هناك أسرارا عسكرية ليس لأحد أن يخوض فيها، وبذات القدر فإننى أفهم أن احترام المؤسستين لا يعنى أن يظلا فوق النقد أو المساءلة، بما يحولهما إلى نموذج للأبقار المقدسة كما يقول التعبير الشائع. وبسبب تلك الحصانة غير المبررة خصوصا الأنشطة المدنية فإن المؤسستين تحولتا إلى استثناءين بين مؤسسات المجتمع، الأمر الذى حولهما إلى دولتين شبه مستقلتين داخل الدولة.

(٣)
فى سفر الأساطير تطل علينا عناوين أخرى تتحدث عن أهل الشر والشعب الرافض لهم والحرب التى تخوضها مصر ضدهم.. إلى غير ذلك من صياغات الشيطنة والشعبوية التى تتلاعب بمشاعر العوام وتشوه وعيهم، بل وتفسد الحياة السياسية أيضا. أسطورة الحرب ضد الأشرار من أغرب ما يروج له فى هذا السياق. ولا تكمن غرابتها فى أنها طاردة بصورة تلقائية للاسثتمارات المرغوبة لأنه ما من عاقل يستثمر أمواله فى جبهة قتال، ولكن أغرب ما فيها أنها حرب افتراضية بولغ فيها لتسويغ الطوارئ وتقييد الحريات. وأصلها لا يتجاوز اشتباكات ومشاغبات لا تتجاوز حدود سيناء فى الأغلب، فى حين أن حوادث المرور أكبر منها بكثير فى بقية أنحاء مصر.

(٤)
أختم بأسطورتى المجتمع المدنى والمصالحة الوطنية فى مصر. ذلك أن المجتمع المدنى لا يقوم بنص فى الدستور احتفى به كثيرون واكتفوا به. وتجاهلوا أنه مجتمع المؤسسات المستقلة التى تقام على الأرض وتشترك فى صناعة القرار السياسى والتعبير عن حقوق الناس ومراقبة أداء السلطة التنفيذية. وبعض تلك المؤسسات مقامة فى مصر فعلا ولكنها إما ملحقة بالسلطة أو معطلة الوظيفة. ومن المفارقات أن المظهر الأبرز للمجتمع المدنى فى مصر، المتمثل فى المنظمات الحقوقية، أصبح هدف الملاحقة والاتهام والقمع بمختلف صوره.
تبقى مسألة الوحدة الوطنية المنصوص عليها فى خارطة الطريق التى أعلنت فى ٣ يوليو فى مشهد إعلان ميلاد النظام الجديد وهو الشعار الذى أطلق فى الفضاء السياسى وحولته الممارسة إلى أسطورة نسمع بها ولا نرى لها أثرا. إذ كما أجهضت فكرة المجتمع المدنى فإن تطبيق ذلك البند ظل محصورا فى جماعات الموالين والمحبين مع إقصاء غيرهم بمختلف الحيل والذرائع. فى حين أننى أفهم أن الوحدة الوطنية الحقيقية هى التى تجمع شتات الأمة، من تحبهم فيها ومن تكرههم، طالما توافق الجميع على احترام الدستور والرغبة فى العيش المشترك.

كاتب ومفكر مصري