بقلم : مرتضى بن حسن بن علي
«العملية الخاصة» التي بدأتها روسيا يوم ٢٤ فبراير ٢٠٢٢، قد تعيد في حالة قدرتها على فرض معظم شروطها على أوكرانيا، إلى إعادة تشكيل النظام العالمي الحالي الذي تشكل بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي عام 1991. روسيا ليست في حرب مع أوكرانيا فقط، بل مع الولايات المتحدة الامريكية التي تتزعم وتقود حلف شمال الاطلسي « ناتو». القتال يدور الآن في أوروبا، التي بدأت تستعيد مجدداً مشاهد الموت والدمار والنزوح والتهجير،بعد ان تصورت إنها ودّعتها، وعادت لغة الحرب الباردة من جديد.
منذ إنهيار الإتحاد السوفياتي واجهت الولايات المتحدة معضلة التعامل مع روسيا، تراوحت بين إضعافها وتفكيكها أو محاصرتها، فالروس تحدثوا بإستمرار عن وثيقة سياسية قدمتها إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغان لنظيره السوفياتي ميخائيل غورباشوف،تعهّدت فيها واشنطن بعدم توسيع حلف الناتو شرقاً،مقابل موافقة روسيا على إعادة توحيد ألمانيا،إضافة الى التأكيدات التي قدمتها واشنطن ثلاث مرات، عبر وزير خارجيتها الأسبق جيمس بيكر،بان الناتو لن يتوسع شرقا، وهذه هي المشكلة المركزية اليوم في كل الصراع الذي نشهده اليوم بين الغرب وروسيا.
ما حصل هو العكس،بدأت الولايات المتحدة بتطويق روسيا عن طريق إدخال الدول التي كانت جزءاً من الإتحاد السوفيتي أو حليفةً لها إلى حلف الـ «ناتو»، وعرقلة أي انتعاش للقوّة الروسية مستقبلاً. العداء الامريكي لم يكن على خلفية أيدولوجية،وإنما صراع قوة محض، للرغبة الامريكية بقيادة العالم منفردة،ومنع أي دولة في العالم من منافستها.
بعد تفكك الإتحاد السوفيتي ترسخت قناعات لدى البعض بأن انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة،سوف يحولها إلى زعيمة ذلك النظام العالمي والآمر الناهي فيه. في وقته ذاعت مقولات ونظريات، جاءت ليس من عوالم السياسة فقط وإنما من عوالم الفكر أيضا، فقد زعم أستاذ العلوم السياسية « فوكوياما» بأنها «نهاية التاريخ «،لأن البشرية توصلت إلى مثالها النهائي، وهو الديمقراطية الليبرالية، ولكن التاريخ لا يتوقف عند نقطة معينة وليس هناك نهاية للتاريخ وسط التتاقضات والصراعات المستمرة. لم يؤدِ “انتصار» الولايات المتحدة في الحرب الباردة إلى ظهور نوح جديد يحمل الإنسانية في فلكه أثناء الطوفان الكبير، ويصل بها إلى بر الأمان الامريكي، فروسيا الضخمة بعد ان انزلقت من فوق القمة، بدأت تدريجيا بالمحافظة على الحد الأدنى من التماسك والتوازن، وبدات تدريجيا،بمواردها وطاقاتها تشكل عامل ضغط مع دخول العالم في القرن الحادي والعشرين، معتبرة نفسها وريثا للاتحاد السوفيتي،فهي تملك الموارد الاقتصادية والبشرية، وأضخم ترسانة نووية، وأكبر قوة إطلاق للصواريخ،والذي يؤكد بوجود مقدرة تكنولوجية عالية لديها رغم إن طبائع النظام السوفيتي لم تسمح لهذه التكنولوجيا أن تفيض على الجوانب المدنية للإنتاج.
وبدلا من التعامل الناضج مع روسيا،جرت محاولات لإضعافها وحصارها بسلسلة من القواعد العسكرية،رغم الاتفاقات السابقة التي التزم بها الغرب بعدم التوسع شرقا.
وأثناء الطوفان الذي كان يجتاح العالم،برز على سطحه عملاق جديد إسمه الصين، وهي وصلت في نهاية عام ٢٠٢١ إلى تعداد سكان حجمه نحو 1,412 مليون نسمة،وبلغ حجم ناتجها القومي نحو 18 تريليون دولار امريكي، مقتربا من حجم الناتج القومي الامريكي البالغ 22,9 تريليون دولار. وحسب معدلات النمو الصيني الحالية،فمن المتوقع ان يتجاوز قريبا الناتج القومي الامريكي، وما يضاعف من تأثير الصين هو ما يطلق عليه «مجموعة النمور الاسيوية» وهي تتحرك في نطاق جاذبية الكتلة الإنسانية الصينية المهولة.
بذلت الصين وما زالت، جهودا كببرة للتحول من المركزية الصارمة إلى نوع من التعددية، والانتقال السلمي من الفقر إلى الوفرة، وضمان توازن بين حجم السكان وحجم الغذاء والخدمات الضرورية لهم.
الصين، وبصرف النظر عن كل العقبات، بإمكانياتها ومصاعبها أصبحت لاعبا فاعلا رئيسيا،وأكثر فعالية خلال الفترة المقبلة،وبدأت تثير المخاوف الامريكية.إضافة إلى ذلك هناك قوى أخرى في أسيا مثل الهند وتركيا وإيران، وقوى أخرى في امريكا اللاتينية مثل الارجنتين والبرازيل والمكسيك الخ.. تريد لعب ادوار خاصة.
بلغ حجم الدين الامريكي في نهاية عام 2021 نحو 28 تريليون دولار. ويقدر المراقبون انها سوف تضطر إلى أخذ قروض جديدة بنحو 13 تريليون دولار لدفع بعض الديون المستحقة أو لتمويل مزيد من العجوزات، في الوقت الذي تواجه تضخما مستمرا والذي قد يدفع الاحتياطي الامريكي لزيادة نسبة الفائدة، وبالتالي إلى تكلفة إضافية على ديونها، وقد يؤدي ذلك إلى تضخم من الصعب السيطرة عليه، والى هروب الرأس المال من الأصول الدولارية إلى الذهب او غيرها من الاصول الملموسة،وإلى إنسحاب الدول التي تحتفظ باحتياطاتها من الأصول الدولارية والذي سيؤثر على وضع الدولار كعملة احتياطية تدريجيا.
من الصعب على الولايات المتحدة القبول بهذا الموقف،بحيث تتجاوز ديونها والفوائد عليها كامل دخلها القومي. لذلك بدأت تحاول بكل وسيلة أن لا تصل إلى هذا المأزق مهما كان الثمن. وكل ذلك استفحل على مستوى القرار السياسي وعلى قدرتها على التصرف الرشيد، وبدأت تلجأ إلى أنواع من العنف، مستحدث في ممارساته، منها إشغال الحروب المختلفة، المباشرة وغير المباشرة والهجينة. إصرارها على ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو وتسليحها بشكل كبير، جاء ضمن تلك السياسة. كل ذلك جعل روسيا تشعر ان أوكرانيا أصبحت خطرا وجوديا عليها،حسب ما صرحت بها موسكو. فمنصات الصواريخ الغربية ستتوجه لموسكو، فضلاً عن أهمّية أوكرانيا تاريخيا واستراتيجياً واقتصادياً للروس، اوكرانيا أصبحت خطاً أحمر لروسيا، ولا سيما ان لها حدود مشتركة تتجاوز 2000 كيلومتر معها.
وقد سبق للولايات المتحدة ان بدأت حروبها الاقتصادية والتجارية مع أقرب اصدقائها وحلفائها، فقد بدأتها مع اليابان، وبعد ذلك مع اوروبا والمانيا في طليعتها، وحاولت إغراء غرب اوروبا بإن يدخل في ضبط مشاكل شرق اوروبا، ويتحمل تبعاته وتكاليفه،وغرب اوروبا لا يريد أن يتورط،وفي شرق أسيا حاولت وما زالت، ان تعوق إمكانية اي لقاء استراتيجي بين اليابان والصين بحيث يقوم كلا من العملاقين الصيني والياباني بمزاحمة الأخر.
بدأت الأمور بين روسيا والولايات المتحدة والناتو عموما بالتأزم والتصادم،بعد عدم وصول الضمانات الأمنية المكتوبة التي طالبت بها روسيا والمتمثلة في منع انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي، وعدم توسعة الناتو، ووقف تسليم الأسلحة الهجومية إلى أوكرانيا وإخراجها منها،وخروج كافة المستشارين والمدربين العسكريين الغربيين منها، ووقف المناورات المشتركة لقوات الناتو، وإخراج منصات الصواريخ من أوكرانيا وبولندا ورومانيا من باقي الدول القريبة من روسيا. من هنا أستنتج المراقبون إن الولايات المتحدة تدفع باتجاه التصادم الأوروبي ــ الروسي للحصول على بعض المكاسب ومنها:
أ- إيقاف مد أنابيب السيل الشمالي الروسي باتجاه أوروبا الغربية، وإيجاد البديل للغاز الروسي تمهيدا لوقفه تماما، وإشغال اوروبا بالحرب واستنزافها اقتصادياً وعسكرياً لإحياء سوق السلاح الذي تحتاجه أمريكا لتنشيط اقتصادها.
ج ــ إيقاف التمدد الاقتصادي الصيني الذي يندفع باتجاه العالم.
د- استنزاف روسيا في أوكرانيا.
الأزمة الاوكرانية أظهرت إن ما يشهده العالم من تحولات جيوسياسية عميقة وما يواجهه من تحديات أمنية معقدة، ليس إلا بداية لتغيرات كبرى قادمة،ومنها بروز نظام عالمي جديد سيكون له دون شك تأثيرات وتداعيات على جميع دول العالم دون استثناء. فما هي التداعيات المتوقعة؟