بقلم : محمد محمود عثمان
فجأة وبدون توقع انطلقت في الساعة الثانية ظهرا من يوم العاشر من رمضان -السادس من أكتوبر 1973 اسراب الطائرات الحربية المصرية على امتداد عرض قناة السويس لتدك معاقل النقاط الحصينة للقوات الإسرائيلية على الشاطئ الشرقي للقناة ، والتي كانت تتغنى بأسطورة «الجيش الذي لا يقهر» ، خاصة بعد الهزيمة القاسية للجيوش العربية وعلى رأسها الجيش المصري أكبر الجيوش العربية في حرب 1967، والنظرة الدونية من الغرب لكل من هو عربي ،
لحظات حاسمة لم تكن في حسبان أكثر المتفائلين من الخبراء والعسكريين في العالم ولا حتى أكبر أجهزة الاستخبارات العالمية ، في ظل ضعف الاقتصاديات العربية وخاصة مصر التي ظلت تعاني اقتصاديا وهي تحمل لواء الحرب منذ هزيمة العرب عام 1948 ،بعد أن وجهت كل مواردها المادية والبشرية لاقتصاد الحرب ، وأعلنت بأنه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة « طوال سنوات حرب الاستنزاف التي أعقبت نكسة يونيو 1967، استعداداً ليوم الحسم وتحمل الشعب المصري كل التبعات والهزات الاقتصادية التي أثرت على حياة الناس بكل فئاتهم ، كما تحمل أيضا سخرية دول العالم أجمع من العرب والغرب ، وشماتة الإسرائيليين، بعد أن انهارت البنى الأساسية والمرافق الخدمية والتعليمية والصحية والطرق والمواصلات والاتصالات وتوقفت الاستثمارات ، وتحويل كل الدخل القومي للمجهود الحربي لشراء السلاح وتجهيز القوات المسلحة وتدريبها ، وتوفير الامدادات من المؤن والذخيرة والمعدات وقطع الغيار، الأمر الذي أدى إلى تطبيق خطة اقتصادية تعتمد على الترشيد الشديد في الإنفاق الحكومي، لتدبير الأموال اللازمة لصالح القوات المسلحة ، على الرغم من عجز الموازنة العامة ، ونقص الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية ،التي كانت لا تغطي اعتمادات الاستيراد للسلع الغذائية الأساسية ، الذي صاحبه العديد من المظاهرات والاحتجاجات على زيادة أسعار المواد الغذائية
وأفخر بأنني كنت جنديا مشاركا في حرب الاستنزاف وحتى العبور والانتصار في 1973 وكنا نتدرب ونستعد وكلنا يشعر باليأس الشديد ، وكانت سنوات عجاف وشاقة نفسيا وبدنيا ،
كنا نلعب كرة القدم على شاطئ القناة وترصدنا قوات العدو يوميا - وقد اعتادت على ذلك - ولكن في يوم العبور ونحن نلعب شاهدنا موجات الطائرات المصرية وهي تعبر القناة ولم نعلم بأن الحرب قد بدأت ، لأن كل المؤشرات كانت لا تقودنا إلى التفاؤل وكانت سنوات ضبابية ، بعد أن تراجع الرئيس السادات لأكثر من مرة عن سنوات الحسم التي أعلنها ، وبعد أن طرد كل المستشارين و الخبراء الروس في القوات المسلحة ، حتى اعتقد الأعداء بأننا نائمون وأمامنا أكثر من 50 عاما لنكون قادرين على الحرب ضد إسرائيل ، وقد صاحب ذلك سلسلة من المقالات الأسبوعية للصحفي الكبير محمد حسنين هيكل بعنوان بصراحة في جريدة الأهرام ، - وهو المقرب من أصحاب القرار- الذي يؤكد فيها بأنه من الصعب على القوات المصرية عبور أكبر مانع مائي في التاريخ وهو قناة السويس ، والساتر الترابي لخط بارليف وهو أقوى الخطوط الدفاعية في العالم وشبكة النابالم سريعة الاشتعال الممتدة بطول قناة السويس ، والتي يتبعها نقاط حصينة للقوات الإسرائيلية المزودة بأحدث الأسلحة الغربية والأمريكية المضادة للطائرات والدبابات ، ولكن انتقدت مع نفسي ومع زملائي هذه المقالات التي تحطم الروح المعنوية للجنود والقوات المسلحة ، إلا إذا كان ذلك للتمويه ، وكنت في بداية عملي صحفيا تحت التمرين.
ولكن علمنا بعدها بأن الرئيس السادات بدهائه العسكري والسياسي استثمر ذلك لنجاح خطة الخداع الاستراتيجي التي نفذها بنجاح وخدع بها أكبر أجهزة المخابرات العالمية ، خاصة أن جريدة الأهرام قد نشرت أيضا في يوم العبور بأن قيادات من الجيش يذهبون للسعودية لأداء مناسك العمرة وأن وزير الدفاع يتوجه إلى أمريكا لإجراء مباحثات رسمية،في الوقت الذي وزير الخارجية يبحث مع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي في واشنطن رغبة مصر في تحقيق السلام.
وقتها كان سعر برميل النفط لا يتعدى سبعة دولارات والعائدات التي تحصل عليها معظم الدول النفطية الخليجية لا تكفي احتياجاتها كاملة أو بالكاد ،وليس لديها وفورات مالية ، ولا تملك جيوشا نظامية قوية ، ولكن مع استخدام سلاح النفط كسلاح استراتيجي في المعركة أدى إلى الطفرة الكبيرة في أسعار النفط عالميا واستفادة الدول العربية من العائدات النفطية التي تسببت في نقلة نوعية اقتصادية غير مسبوقة غيرت وجه الحياة في هذه المجتمعات ،ولذلك فهذا النصر الاقتصادي هو الأول في العصر الحديث الذي صنع النصر العسكري للعرب وللمسلمين ، وعبرنا من خلاله الانكسارات الاقتصادية والسياسية والنفسية التي لحقت بالعرب بل وبالمسلمين ، ولتفتح طاقة أمل ونور أمام المواطن العربي الذي حاصرته الانكسارات وجعلته قابعا تحت مظلة الانهزامات المتوالية منذ أكثر من نصف قرن ، بداية من نكبة 1948م مرورا بنكسة 1967م , وصولا إلى أم النكبات بسقوط بغداد في 2003م ، وما يحدث في سوريا وليبيا واليمن والسودان ، لأن استخدام سلاح النفط اقتصاديا تجلت فيه الأخوة العربية بكل معانيها والتي نفتقدها في مواقف كثيرة متعلقة بحاضر ومستقبل الأمة العربية الآن.