الوقف وما أدراك ما الوقف!

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٥/أبريل/٢٠٢٢ ٠٩:١٦ ص
الوقف وما أدراك ما الوقف!

بقلم: علي بن راشد المطاعني

ما يثلج صدورنا جميعا أن هناك تطورات جيدة في سبيل النهوض بأعمال الأوقاف على إختلافها وتنظيمها وتسجيلها وإحياءها والتوعية بها على المستويات الحكومية والأهلية لماتمثله من أهمية كبيرة في رفد الجهود الحكومية والمجتمعية وإيجاد مصادر بديلة للمؤسسات الإجتماعية وشرائح المجتمع خاصة أسر الضمان الإجتماعي وذوي الدخل المحدود التي بدأت تتزايد نتيجة للاوضاع الإقتصادية والإجتماعية ، وذلك من خلال الإستفادة من الإرث الحضاري الإسلامي والإجتماعي في تعظيم الأوقاف وتأكيد أهميتها في حياة الفرد والمجتمع ، خاصة الأوقاف المهمة كالتعليمية والصحية ، الأمر الذي يبعث على الإرتياح للخطوات التي بدأت تؤتي ثمارها وتؤسس لأعمال وقفية ثابتة.

لقد حظي الوقف بمكانة عالية ومنزلة رفيعة في الشريعة الإسلامية والأعراف الإجتماعية وقد وردت في القرآن الكريم الكثير من الآيات الحاثة على الوقف وموضحة لأهميته الإجتماعية وبما يدفعنا لإرتياد هذا النهر المعطاء مصداقا لقوله تعالي في سورة البقرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254))، وقوله تعالى في سورة التغابن ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16))، وليس هناك مكافأة على الوقف أسمى وأعلى من قوله تعالى في سورة فاطر (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)) صدق الله العظيم .

من بعد ذلك ليس هناك من مغنم غير ما قاله رب العزة للمنفقين والمتصدقين وفي تعظيم الأوقاف بإعتبارها قمة سنام الإنفاق ، ولعل السيرة ‏النبوية المطهرة جادت بالكثير من الأحاديث والسنن النبوية الدالة على أعمال الخير ومن ضمنها الأوقاف إداركا من المصطفى صلوات الله وسلامه عليه بأهمية الوقف ودوره في حياة الفرد و المجتمع .

ولا نغفل حقيقة أن الوقف في السلطنة حظي بعناية بالغة في الحقب الماضية ، وتشير بعض المراجع إلى أن تاريخ الوقف في عُمان يعود للصحابي الجليل مازن بن غضوبة ، عند تأسيسه لمسجد المضمار في ولاية سمائل ، والذي أوقف له بعضا من ماله ، كما إن من أقدم الأوقاف العُمانية وقف الإمام الوارث بن كعب الخروصي ، الذي يقدر عمره بأكثر من (1200) عام ، ولا يزال قائما ويوزع ريعه على الموقوف عليهم حتى يومنا هذا ولله المنة والحمد .

واستمر العُمانيون يقتفون أثر نبيهم الكريم وصحابته الأطهار في توقيف أموالهم إلى يومنا هذا ، وقد بلغت صنوف الوقف في عُمان ما يربو على ثمانين صنفا ، فهنالك وقف للمساجد ليغطي شؤونها واحتياجاتها المختلفة ، وهنالك الوقف الصحي ، ووقف الطرق ، ووقف لرعاية الأيتام والفقراء والمحتاجين ، ووقف للمجالس ، كما أن هنالك الوقف التعليمي ، الذي يُعد من أهم صنوف الوقف ، والذي تعددت صوره فمنه ما كان وقفا لمدارس القرآن الكريم ، ووقف المتعلمين ، ووقف لفناجين المتعلمين ، ووقف لخضاري المتعلمين ، ووقف الكتب والمكتبات ، ووقف القرطاس وأحبار الأقلام ، بل هنالك وقف لساكب القهوة للعلماء ، فهذه الأوقاف وبأنواعها تلك تدل على إهتمام أجدادنا بالوقف وأهميته ودوره في منظومة بناء الدولة ومساهمته ودوره في كافة قطاعاتها الحيوية .

ولعل الأوروبيين أدركوا أهمية الوقف ودوره في تعزيز مجالات الحياة العامة ، وخاصة الأوقاف التعليمية ، فقامت من أجلها مؤسسات وقفية ضخمة تقدر أصولها بعشرات المليارات من الدولارات ، ومن ذلك أوقاف جامعتي هارفارد وييل بالولايات المتحدة الأميركية التي تقدر قيمة أوقافها بـ 40 مليار دولار ، وجامعتي أكسفورد وكامبردج بالمملكة المتحدة التي تبلغ قيمة أصولها بعشرات المليارات من الجنيهات الإسترلينية ، وعبرها يتم رفد المهتمين بالإجادة والإبتكار والبحث العلمي الذي تربعت به على قمة هرم الجامعات في العالم نتيجة لما تمتلكه من أوقاف .

في الواقع فإن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية تضطلع بدور لا تخطئه العين تجاه الوقف ، فقد أولته جل العناية والإهتمام من أجل تعميره وتثمينه والحفاظ عليه ، ليبقى أبدا معينا لا ينضب ، وبما يحقق تطلعات الحكومة الرشيدة في رؤية عُمان 2040 بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ إذ عولت على الأوقاف لتكون رافدا لا ينضب بحول الله من روافد الدولة ، وركنا من أركانها في تنويع مصادر الدخل القومي للبلاد.

ففي الإطار التشريعي ، صدر قانون الأوقاف بموجب المرسوم السلطاني السامي رقم (65/2000) وتعديله بموجب المرسوم رقم (54/2013) .

وفي عام (2019) صدر دليل حوكمة المؤسسات الوقفية العامة والخاصة من قبل الوزارة بإعتبارها وجها جديدا متطورا من وجوه إدارة الأموال والأصول الوقفية ، وبهدف الإبتعاد عن المركزية في الإدارة ، و تعمل الوزارة حاليا على إعداد إطار الحوكمة الشاملة للأوقاف والمساجد ومدارس القرآن الكريم ، وحوكمة وكلاء الأوقاف.

أما على مستوى العمليات الإدارية للأوقاف ، فقد تم مؤخرا تدشين البرنامج الإلكتروني للأوقاف ، والذي سجلت فيه بيانات تفصيلية لما يزيد على (28) ألف أصل وقفي وبيت مال ، وهو مايشيرالي زيادة أعداد الأوقاف في سلطنة عُمان والرغبة في تسجيل الأوقاف لأمور تهم الفرد والمجتمع ، وتعكس وعيا باهميته على كل الأصعدة.

بالطبع نحتاج لجهود كبيرة للتوعية بأهمية الوقف وتطوير آلياته وحث المجتمع وخاصة رجالات الأعمال والأثرياء بوقف أملاكهم خدمة للتعليم والصحة والجوانب الإجتماعية الأخرى وللمؤسسات الخيرية والتطوعية التي تقوم برعاية بعض فئات المجتمع المستحقة للدعم.

نأمل أن نسارع جميعا إلى وقف الأموال والعقارات والمؤسسات العامة والعمل على تنميتها ، وننتهز النفحات الطيبات لشهر رمضان المبارك لمضاعفة هذا الجهد الوقفي النبيل عشما في إن يضاعف الله لنا الأجر والثواب في شهر الثواب ، ولتبقى الصدقات جاريات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، مصداقا لقول المصطفى صل الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ، علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية ..