محمد بن سيف الرحبي
alrahby@gmail.com
www.facebook.com/msrahby
يبدو لي الأمر أقرب إلى دخول حالة تاريخية مدهشة.. التراجع عنها محض خيال علمي.. سادرا في غيي حيث أتبع الآثار كمستكشف نسي حاضره وولى وجهه صوب الماضي.. اليوم خيالي الواسع، والأمس عبوري الممكن.
تأخرت عن زنجبار كعادتي مع المدن التي تسحبني إليها عنوة.. مستعينا بخرائطي الذهنية القديمة لعبور المسافة بين ساحلين لا تصل بينهما سفينة شراعية وقودها الهواء ودروبها همم الرجال، تمخر الماء بكل وجل، بل خمس ساعات من التحليق جوا كنورس عملاق اختار مساره.. وطار.
زنجبار علقتني بها طويلا، منذ جلجلة الكلمة في أذني طفلا عن راحلين إليها وعائدين منها..
رأيتها في سمرة الوجوه، وسمعتها في لكنة الألسنة، وقرأتها في عناوين مجد، حيث البرتغاليون يجمعون ما تبقى من تاريخهم الإمبراطوري هاربين تلاحقهم سيوف اليعاربة.. وحيث يبدأ السيد سعيد بن سلطان يعلم (السواحل) أبجديات حضور عماني، رافعا أسنة مجد على ذلك الساحل البعيد.
يممت وجهة سفري نحو زنجبار، ومعي، في جرابي حكايات من ذلك الزمن العتيد، يقولها المغامر العماني الأول حين وضع قدمه على (البر) وقال «هنا سأصنع تاريخي». لم تكن زنجبار منفى مع رحلات العمانيين إليها بحثا عن لقمة عيش وتجارة.. وحيث حاصرتهم فتن الحروب الأهلية والقحط والمجاعات.. كانت وطنا احتضنهم ورعاهم.
زنجبار هي قصة التداخل بين حضارتين، عمانية آتية من خلف البحار.. وأفريقية تغازل الغزاة والمستعمرين والتجار والمغامرين.. هي حكاية إنسانية لا تكف عن المزاوجة بين أقدار الحاضر وتبعات الماضي.. لا تستطيع الانفلات مما حدث لأن الانصهار أقوى من محاولات فصل الأقدار عن بعضها البعض.. عمانيون في زنجبار.. زنجباريون في عمان.. هذا الرحم المتداخل عبر مئات السنين علامة لا تنقطع تروي زمنا إمبراطوريا وضع عمان وزنجبار في كفة تاريخية واحدة.. ربما تغيرت معطيات التاريخ وحسابات السياسة.. لكن الدم الذي جمع الجنسين العربي والأفريقي عصي على تغيير سماته.. وسيبقى يوجه بوصلة القلب العماني صوب الساحل الأفريقي كما هي بوصلة أولئك الذين يشعرون أنهم عمانيون رغم أنف الأوراق الرسمية.
هكذا يضغط التاريخ على مسافات أقطعها بين ساحلين.. كأنما عام 1964 أسقطه الزمن من حساباته، وأن السلطان جمشيد لم يقل (كواهيري) لعاصمة ملكه وملك آبائه وأجداده.. وأن ضحايا المذبحة الرهيبة لم يكونوا هناك عندما غدر بالحضور العربي في جزيرة كانت قبلة العالم التجارية وعرفت المدنية قبل أن تدركها حتى مدن أوروبا.
أحاول الخروج من عنق التاريخ لأمد عنقي قليلا من نافذة الطائرة عل البحر أسفلها يخبرني أين مات السيد سعيد بن سلطان سلطان مسقط وزنحبار.. حيث كان يتنقل بين عاصمتي مجده.. يخبرني عن أية بقعة انتظرت جثمانه ليبكيه بيت الساحل وبيت المتوني.. وآلاف البيوت التي أدركت أن مجدا عربيا مختوما بقوة إمبراطورية عمانية يتراجع صوته على صدى الفرقة بين الأبناء.
..وحين حطت الطائرة العمانية على مدرج المطار، همس التاريخ في أذني.. وقال: هنا زنجبار.