لِأيِّ امرأةٍ تُكتَبُ القصيدة؟

مقالات رأي و تحليلات السبت ٣٠/أبريل/٢٠١٦ ٢٣:٣٨ م
لِأيِّ امرأةٍ تُكتَبُ القصيدة؟

زاهي وهبي
تساءلت في نهاية مقالتي الأحد الفائت التي حملت عنوان "امرأة القصيدة" لماذا يكتب الشعراء أكثر للنساء اللواتي رحلن عنهم، لماذا تغدو الحبيبة المحرَّمة أو الممنوعة أكثر استدعاءً للشعر الى حد الجنون والهلاك؟ هل تصحُّ في الشعر مقولة "كل ممنوع مرغوب"؟ كثيرة هي التساؤلات التي يثيرها هذا الموضوع، خصوصاً وأن ثمة قصائد حُبّ لم تُخلِّد فقط أصحابها بل معشوقاتهم أيضاً. فلولا عنترة ما سمعنا بعبلة ولا تناهت إلينا أخبارها، ولولا قيس بن الملوَّح ما جاءنا ذِكْرُ ليلى العامرية، الأمثلة المشابهة لا تعد ولا تحصى. فهل يا ترى كان الشعراء العشّاق المجانين لِيَكتبوا ما كتبوا لو كانت قصص عشقهم عادية وطبيعية تنتهي كما الأفلام الهندية نهايات سعيدة.
لماذا لا يكتب الشعراء قصائد عشق ملتهبة في زوجاتهم كما يفعل العشَّاق مع معشوقاتهم؟ أَتَفقِدُ المرأة هالتها وسحرها كَمُلهِمة حين تغدو قريبة الى هذا الحد؟ لم يكتب نزار قباني قصيدته الفاتنة في زوجته بلقيس الا بعد مقتلها في عملية تفجير السفارة العراقية في بيروت، ولم يخطّ محمد الماغوط كلمةً في زوجته الشاعرة سنية صالح الا بعد وفاتها. أَفِي الشعراء جميعاً شيء من الشاعر ديك الجن الحمصي (اسمه الحقيقي عبد السلام بن رغبان الكلبي)الذي أحرق زوجته ورداً ومزج رمادها_في روايات أخرى تراب ضريحها_بخمرة جنونه وارتشفها كأسَ تَمَلُّكٍ وغيرة ونرجسية مفرطة ثم راح حين أدرك هول فعلته يندبها ويرثيها شعراً محاولاً استرجاعها بالقصيدة(!) وظلَّ يبكيها حتى هلك.
لِنتفق أن الفن، بما فيه الشعر، في وجه من وجوهه الكثيرة تعويضٌ عن نقصان ما. معظم الذين اختاروا طريق الابداع كانوا يردمون فجوات سحيقة في أرواحهم ونفوسهم وأفئدتهم. من هنا نقول: نعم، الشاعر العاشق يكتب خساراته أكثر مما يكتب انتصاراته. نقصد بالخسارات والانتصارات تلك المشاعر الجوانية العميقة التي ترميه في قاع الحسرة والندامة والكآبة أو ترفعه الى مرتبة اللذة والنشوة المشتهاة، وما يعتمل في داخله من مكابدات وأشواق وتوق الى لحظة الوصال. أما حين الوصال فالأرجح أنه ينصرف الى عيش اللحظة وقطف لذائذها. بين القُبلة والكتابة عن القُبلة يختار العاشق القُبلة(!) ولأن ثمة شعراء عشَّاق انحازوا الى الكتابة على حساب الحياة، فإنهم ضحوا بمعشوقاتهم في الواقع ليحتفظوا بهن الى الأبد في القصيدة.
المتيسرُ المتاح لا يغري كثيراً، الصعوبة مغوية وفاتنة حتى لو أوقفت أصحابها الى الحافة والشفير، أو دفعت بهم الى جوف الهاوية. ألا تشكو نساء كثيرات غدرَ الحبيب وانصرافه بعد نيل وطره منهن. كأنَّ نيل المراد يُفقِد طالبه الشغف والرغبة والتوق اليه، لذا كثيراً ما نسمع مقولات على شاكلة "الزواج مقبرة الحُبّ". وهل يُولَد الشعر الا من الحُبّ والشغف واللهيب المصفَّى؟ هل يعني ذلك أن المرأة "الحاضرة" لا تستدعي الشعر ولا تستحق القصيدة؟ قطعاً ليس الأمر على هذا النحو، هي تستدعي قصيدة بمضامين مختلفة، تحلُّ السكنى والألفة والمشاعر الدافئة العميقة مكان التوق والشوق وشغف الوصال الممنوع. متى أدرك الشاعر أن المرأة ليست فقط أنثى، وتجاوز هذه النظرة القاصرة تجاهها الى عمقها الإنساني، وفهم الأنوثة بمعانيها المتعددة، ولم يقصرها على الجانب الحسِّي فإن العلاقة برمتها تتغير وليس فقط كتابة القصيدة. لكن لا مَفرَّ من الاعتراف بأن الاستحالة تُوقِدُ المشاعر وتدفع بها الى حدودها القصوى موَّلِدةً القصيدة الملتهبة التي لا تنطفىء نارها بتقادم الأيام ومرور الزمن.
الأسئلة المماثلة لِما بدأنا به هذه الأسطر لا أجوبة شافية لها، ولا أحد في إمكانه الجزم والحسم لأن الكائن الإنساني بمقدار ما هو واحد هو متعدد أيضاً وبالتالي قد نقع على استثناءات تنسف كلَّ ما ذهبنا اليه، ورأينا في نهاية المطاف مجرد وجهة نظر تحتمل الصواب مثلما تحتمل الخطأ، وما تناولناه عرضة للتغير والتبدل بين عصر وآخر ومجتمع وآخر، لذا نتجنب التعميم قدر الإمكان. لكننا نظلُّ نزعم أن العاشق متى عاش لذة الوصال استغرق فيها عِوَض كتابتها شعراً، وتظل المرأة المستحيلة ضرورة لولادة قصيدة العشق حتى لو لم تكن موجودة الا في أخيلة الشاعر ووساوِس نومه ويقظته(أنظر "امرأة القصيدة"، الشبيبة، ٢٤/٤/٢٠١٦).
ما يهمنا التأكيد عليه أن الشاعر الحديث مدعو، ليؤكد حداثته، الى التخلي عن تشييء المرأة وتسليعها، أو اعتبارها مجرد موضوع لقصيدته. ليست المرأة شيئاً ولا موضوعاً، المرأة شريكة في كل شيء وكل موضوع. حين نكتب عن شعر الحُبّ فإن الحُبّ هو الموضوع لا المرأة. المرأة انسان أولاً وأخيراً، وللأسف فإن حضورها في كثير من الشعر العربي اقتصر على وجه واحد من وجوهها الكثيرة، وعلى الرغم من اختلاف مراحل الشعر العربي من الجاهلية الى يومنا هذا، فإن النظرة الذكورية والأبوية ظلت طاغية على ما عداها، بل انها منعت المرأة مِن أن تعبِّر في قصيدتها عن مشاعرها الحقيقية بعيداً من التورية والمجاز، وهذا بحث سنعود اليه حين نتناول صورة الرجل في شعر المرأة.
سواء كانت حاضر أم غائبة، متحققة أو مستحيلة، لا يُستطاب بدونها حب ولا شعر ولا حياة ولا مَن يحزنون، ولعلنا انطلاقاً من هذا الفهم نسطيع قلبَ سؤالٍ وَرَدَ أعلاه، لولا عبلة وليلى وورد ونظيراتهن أكان لِيَكتبَ عنترة وقيس وديك الجن وأقرانهم تلك القصائد العابرة للعصور؟ الحُبّ الحقيقي العميق لا يقوم على معادلة فاعل ومفعول به، ذَكَرٌ فاعل وأنثى مفعول بها، بل على معادلة فاعلين معاً، امرأة ورجل يفعلان الحُبّ والشعر وسواهما، "يفعلان" الحياة.
الحُبّ جملة فعلية بفاعلين معاً وبلا مفعول به ولِيَمت النُّحاة كمداً.