بقلم : د.عبدالله الصارمي و د.هناء محمد أمين
أصدرت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في يوليو 2021 تقريرا بعنوان « الهجرة في آسيا: ماهية مهارات المستقبل؟» تناولت فيه الوضع الحالي والمستقبلي للتوظيف في كل من الدول الاسيوية المصدرة للعمالة ودول مجلس التعاون الخليجي المستقبلة لتلك العمالة . واشار التقرير الى ان العالم يواجه بشكل متزايد مشهد توظيف متغير تقنيًا في الدول المصدرة للعمالة وهي الهند والفلبين وباكستان وإندونيسيا وسيريلانكا وافغانستان والنيبال وفيتنام، والدول المستقبلة لها وهي دول مجلس التعاون الخليجي: البحرين والكويت وعمان وقطر والسعودية والإمارات بالإضافة الى ماليزيا. ويرى التقرير ان التغييرات في مشهد التوظيف سوف تؤدي الى إرباك الفوائد والروابط بين الهجرة والتنمية في كل من البلدان المصدرة والمستقبلة لهذه العمالة، وسوف يعتمد مستقبل تدفقات الهجرة ومساهماتها في اقتصادات هذه الدول على قابليتها للتكيف مع التحول في منظور التوظيف والطلب على المهارات. وناقش التقرير المهارات المستقبلية اللازمة وقدم توصيات في خمس مجالات مما يساعد هذه الدول لمواجهة التحول في مشهد التوظيف.
عرض التقرير التغيرات المتوقعة في سوق العمل في دول مجلس التعاون حيث ان اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي تتشابه من الناحية الهيكلية وتعتمد بشكل كبير على نمو قطاع النفط والغاز الذي كان ولا يزال أكبر مساهم في الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة على الرغم من انخفاض حصته بشكل كبير على مدى السنوات 20 الماضية. ففي عام 2019 انخفضت نسبة مساهمة النفط والغاز في الناتج المحلي الإجمالي إلى 29٪ لدول مجلس التعاون الخليجي في المتوسط، بينما نمت جميع القطاعات الاقتصادية غير النفطية مثل قطاع التعدين واستغلال المحاجر، والعقارات والصناعات الكيماوية والتعدين وتجارة الجملة والتجزئة والضيافة. وتعتمد دول مجلس التعاون الخليجي بقوة على العمالة الوافدة، ونسبة كبيرة منها مصدرها جنوب شرق وجنوب آسيا، إذ بلغ عدد الوافدين في دول مجلس التعاون الخليجي ما يقرب من 31 مليون نسمة وهو ما يمثل 53٪ من إجمالي سكان دول مجلس التعاون الخليجي في عام 2020 ، بأعلى نسبة موجودة في الإمارات (88٪) ، قطر (77٪) والكويت (73٪)، وتعكس النسبة الكبيرة من العمالة الوافد النقص في المهارات في القوى العاملة الوطنية. كما ان اقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي لديها سوق عمل مزدوج يعمل فيه المواطنون المحليون عادةً في القطاع العام كونه أكثر جاذبية من حيث الرواتب والامتيازات الاجتماعية، اما الوافدون فعادةً ما يعملون في القطاع الخاص، وتختلف القطاعات التي يعمل فيها الوافدون في دول مجلس التعاون الخليجي، ويعتمد ذلك على المهارات والنوع الاجتماعي والجنسية. وعادة ما يعمل الوافدون في المهن محدودة المهارة وبشكل رئيسي في البناء، كما أنهم يمثلون نسبة مهمة من القوى العاملة في الزراعة والنفط والغاز، والتصنيع، والضيافة، والنقل. ففي الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال يعمل 50٪ من الوافدين في وظائف شبه ماهرة كمشغلي مصانع وآلات، والزراعة وصيد الأسماك والحرف، و20٪ أخرى من العمالة الوافدة تعمل في وظائف أدنى لا تتطلب مهارة كعمال نظافة وعمال منازل.
ويوضح التقريربان التغير في القطاعات الرئيسية في دول مجلس التعاون مستمرا، وأصبح التنويع الاقتصادي في القطاعات غير النفطية ذات اولوية عالية منذ عام 2014 بعد انهيار اسعار النفط وجائحة كورونا الحالية اللذان يوفران الزخم للمضي في هذا التحول بشكل أكبر، وتؤكد الخطط الاستراتيجية التي وضعتها دول مجلس التعاون الست في السنوات الاخيرة على الابتعاد عن الاعتماد على النفط مع توفير الموارد الكافية وتحديث القطاع الخاص وتطويره. وبصورة عامة تهدف الاستراتيجيات الى تنويع الاقتصاديات الى صناعات متطورة ذات قيمة مضافة وبناء اقتصادات مبنية على المعرفة، وهذا يعني الانتقال من صناعات منخفضة التكلفة وكثيفة العمالة الى صناعات كثيفة راس المال ومتطورة تتطلب مهارات عالية. وتركز الاهداف العامة للتنويع الاقتصادي في الاستراتيجيات الوطنية لدول مجلس التعاون على الاستثمار في البنى التحتية باعتبارها امرا حيويا لمواكبة وتيرة مشهد الاقتصاد المتغير وبالأخص البنية التحية الرقمية وتقنيات البيانات، وقطاع الطاقة المتجددة الذي سوف يخلق المزيد من فرص العمل في دول مجلس التعاون الخليجي، و قطاع التصنيع هو أحد القطاعات المتوقعة للنمو في دول المجلس حيث تطبيقات الثورة الصناعية الرابعة جارية في الاتمتة المستمرة للتصنيع التقليدي، والتصنيع اللامركزي وانترنت الاشياء، والروبوتات والمراقبة عن بعد التي سوف تعمل على تخفيض التكلفة وزيادة الكفاءة. كما تتجه دول مجلس التعاون ايضا الى السياحة لتنويع اقتصادها واغتنام الفرص من خلال تراثها الثقافي والاستثمار في المواقع التاريخية والطبيعية والمطارات، وتبنى القطاع المالي في جميع أنحاء المنطقة تقنيات جديدة وبالتحديد Fintech أو ما يعرف بالتكنولوجيا المالية والمنصات المبتكرة التي تنافس الاساليب المالية التقليدية.
ان الرقمنة والاتمتة سوف تعمل على تغيير مشهد التوظيف وتدعم التحول الاقتصادي للمنطقة في جميع القطاعات. وقد وضعت دول مجلس التعاون الخليجي نفسها بشكل جيد نسبيًا من حيث الاستعداد للمستقبل. فوفقًا لمؤشر الجاهزية (NRI) لشبكة 2020 وهو مؤشر يقوم على أربعة أركان تهدف إلى تقييم قدرة البلدان على استغلال الفرص التي توفرها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات: التكنولوجيا، والناس، والحوكمة، والتأثير، حيث تحتل الإمارات المرتبة 30 من بين 134 دولة، تليها قطر (المرتبة 38) والمملكة العربية السعودية (المرتبة 41) والبحرين (المرتبة 42) وعمان (المرتبة 44) والكويت (المرتبة 53).
ويعد التحول نحو الأتمتة، الذي تسارع بسبب جائحة كورونا الحالية، اتجاهًا آخر يؤثر على مشهد العمالة، مدعومًا بتوافر التقنيات الجديدة والرغبة في التقليل من الاعتماد على قوى عاملة خارجية. فإمكانات توسيع نطاق الأتمتة عالية في دول مجلس التعاون الخليجي، لا سيما في القطاعات التي يتم فيها توظيف العمالة الوافدة محدودة المهارة والرخيصة لأداء المهام التي يمكن أن تنجزها الآلات. وقد تم في عام 2018 تقدير ما نسبته 45٪ من المهام التي يمكن أتمتها وفق التكنولوجيا الحالية في دول مجلس التعاون الخليجي، وهو مستوى مشابه للولايات المتحدة (46٪) والدول الأوروبية «الخمسة الكبار» (47٪)، كما ان التصنيع والنقل والتخزين هما القطاعان الأكثر قابلية للأتمتة في دول مجلس التعاون الخليجي (58٪ في المتوسط). وتوجد قطاعات مهمة أخرى في سوق العمل بدول مجلس التعاون الخليجي مثل تجارة التجزئة وتجارة الجملة والتشييد فيها ما متوسطه فوق ال 50% من جملة الأنشطة التي يمكن ان تحل الالة بديلا للعمل اليدوي. ويمكن أن يكون للآثار الاقتصادية والصحية لجائحة كورونا تأثيرات مختلفة على عملية الأتمتة في مختلف القطاعات. ومع ذلك فان إجراءات الإغلاق المختلفة والانتقال السريع إلى العمل عن بعد وكذلك الآثار الوخيمة على الأعمال التجارية والمالية العامة، والدفع نحو تكنولوجيا الابتكار يمكن أن يعجل التحول نحو الأتمتة في مختلف القطاعات الصناعية. وبالإضافة إلى التحول الرقمي والآلي الذي يحدث في مشهد التوظيف، هناك عاملان رئيسيان يسهمان في تغيير سياق سوق العمل: انخفاض معدل الالتحاق بالتعليم التقني والفني وتزايد مشاركة المرأة.