محمد عبد الله العريان
مرة أخرى تقف اليونان عند نقطة انقلاب. ففي ظل الإنهاك الشديد لأرصدتها النقدية، يبدو من غير المرجح أن تتمكن من سداد أقساط الديون المتتالية التي ستصبح مستحقة على مدار الأشهر القليلة المقبلة. وهذا يعني الدخول في جولة أخرى من المناقشات الحادة المحتدمة والمطولة مع دائنيها ــ وهي الجولة التي ربما تفضي إلى حل آخر قصير الأمد. بيد أن تأجيل البت في الأمر ليس الخيار الوحيد المتاح للمفاوضين، بل إنه النهج الخطأ.
عندما تواجه أي دولة مشاكل حادة ترتبط بسداد الديون، فسوف تجد خمس مناورات أساسية تحت تصرفها. فبوسعها أولا أن تسحب من الاحتياطيات النقدية والثروات التي جمعتها أثناء فترات الرواج. وثانيا، تستطيع أن تقترض من الخارج لتلبية المدفوعات المستحقة في الأمد القريب. وثالثا، يمكنها أن تلجأ إلى تدابير التقشف المحلية (مثل زيادة الضرائب أو خفض الإنفاق) في نفس الوقت أو بالتتابع، على النحو الذي يعمل على تحرير الموارد لسداد أقساط الديون.
ورابعا، ربما تلجأ الدولة التي تعاني من ضائقة مالية أيضا إلى تنفيذ استراتيجيات لحفز النمو الاقتصادي، وبالتالي توليد الدخل الإضافي الذي يمكنها استخدامه بعد ذلك لسداد جزء من المدفوعات. وإذا لم ينجح أي مما سبق، فيمكنها أن تلاحق خيارا خامسا: السماح لقوى السوق بتنفيذ القسم الأعظم من التعديل، سواء من خلال تحركات كبيرة للغاية في الأسعار (بما في ذلك سعر الصرف) أو عن طريق فرض التخلف عن السداد.
يتفق أغلب خبراء الاقتصاد على المزيج والتسلسل المثاليين لمثل هذه المناورات. فما يسمى "تقليص الديون الجميل" يستلزم توفر تركيبة من الإصلاحات الداخلية، والتمويل، والاستخدام الحكيم لآلية تسعير السوق.
ولكن ما يبدو على ما يرام من الناحية النظرية أثبت صعوبة تنفيذه في الممارسة العملية. ذلك أن الساسة أكثر ميلا إلى الاستمرار في زيادة اعتماد بلدانهم على التمويل، وهو ما يزيد بالتالي من خطر تعديلات السوق غير المنضبطة، مقارنة بميلهم إلى تنفيذ الإصلاحات البنيوية والتعديلات المالية الصعبة. ولهذا السبب، قاست بلدان عديدة اضطرابات مؤلمة أدت إل تفاقم انخفاضات في الناتج ربما كان في الإمكان تجنبها، وهو ما تسبب في ارتفاع البطالة، وفي أسوأ الحالات تسبب في تآكل النمو المحتمل.
في كل الأحوال، إذا كانت دولة ما مُثقَلة بالديون بالفعل، فربما تجد أن أي قدر من التعديل الواقعي والتمويل لن يكون كافيا ــ لعنة ما يسميه أهل الاقتصاد "أعباء الديون المتراكمة". وفي ظل هذه الظروف، يُفضي الاعتماد على التقشف بهدف تحرير الموارد الداخلية لخدمة الدين إلى خنق النمو الاقتصادي. ومن غير الممكن أن تحقق إصلاحات جانب العرض الداعمة للنمو نتائج سريعة بالقدر الكافي للتعويض عن هذا التأثير.
من جانبهم، يشعر الدائنون الخارجيون بالنفور الشديد إزاء احتمال توفير التمويل الذي تحتاج إليه البلاد لكي تتمكن من العودة إلى المسار الصحيح، مع إحجام أولئك الذين وفروا التمويل في وقت سابق عن تقبل الخسائر عادة. ولا يترك لنا هذا سوى خيار واحد: تعديلات السوق غير المنضبطة.
لأن مثل هذه التعديلات ليست أكثر جاذبية في نظر الدائنين مما هي عليه في نظر المدينين، ينهمك الطرفان في جولات مُهدِرة للوقت من مفاوضات "التمديد والتظاهر"، على أمل ظهور حل سحري ما. ولكنه لا يظهر بطبيعية الحال. بل على العكس من ذلك، تصبح وطأة أعباء الدين أشد وطأة خلال ما يهدرونه من وقت، فيؤدي هذا إلى إضعاف توقعات المدينين في الأمد القريب، بل وأيضا تثبيط التدفقات إلى الداخل من رؤوس الأموال والاستثمارات الجديدة التي تشكل أهمية بالغة لتحقيق النمو في المستقبل.
وهذه هي قصة اليونان باختصار. فبسبب تجنب التحرك الحاسم لمعالجة أعباء الديون المتراكمة، أسهمت اليونان ودائنوها في إحداث حالة مخيبة لآمال الجميع. ولم يكن لدى شركاء اليونان في أوروبا أي شيء حقيقي يُظهِرونه في الدفاع عن مليارات اليورو التي أقرضتها للبلاد. أما صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي، المؤسستان اللتان قررتا مجاراة نهج التمديد والتظاهر، فقد عرضتا مصداقيتهما للخطر.
بيد أن أكبر الخاسرين كانوا هم المواطنون اليونانيون، الذين عانوا بفعل واحد من أشد برامج التقشف قسوة في التاريخ ولكنهم برغم ذلك ظلوا عاجزين عن رؤية الضوء عند نهاية النفق. والواقع أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في اليونان اليوم أصبحت أعلى كثيرا مما كانت عليه عندما بدأت جهود التقشف. وقد ظلت معدلات البطالة بين الشباب والبطالة الطويلة الأجل عند مستويات بالغة الارتفاع لفترة طويلة إلى حد مثير للانزعاج.
محمد عبد الله العريان كبير المستشارين الاقتصاديين في أليانز، ورئيس مجلس الرئيس الأميركي باراك أوباما للتنمية العالمية،